-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المدرسة العليا للرياضيات.. رؤية من الداخل

جمال ضو
  • 4728
  • 0
المدرسة العليا للرياضيات.. رؤية من الداخل

تناولت وسائل الإعلام الجزائرية منذ أيام خبر إقصاء 94 طالبا من المدرسة العليا للرياضيات، ليصبح الخبر بعدها محل نقاش واسع ويغزو وسائل التواصل الاجتماعي، وأدى ذلك إلى ردات فعل وتعليقات مختلفة، أغلبها، إن لم يكن كلها، غير ملمَّة بحقيقة الوضع في هذه المدرسة ولو جزئيا.

ليس الهدف من هذا المقال  تناول القضية من الزاوية نفسها التي تم تناولها بها، من قبيل تضخيم العلامات في البكالوريا والتشكيك في مستوى الطلبة أنفسهم أو أغلبهم، وكأنَّ البعض وجدها فرصة سانحة للانتقام من كل ما هو تفوُّق وتميُّز في هذه البلاد.

إننا  لا نزعم أننا على دراية بقدرات هؤلاء الطلبة المعادِ توجيههم إلى الجامعات أو المقصيين، ولسنا مخوّلين بالحكم على مستواهم الحقيقي، ولكن نزعم أنَّ لدينا بعض العلم بالجو العامّ في مدرسة الرياضيات وكيفية نشأتها وتطوّر مشروعها، فما يهمنا هو مصير من نجحوا وسيواصلون في هذه المدرسة، أي مصير هذه المدرسة ومدارس النخبة بشكل عامّ.  أما من فشلوا في اجتياز الامتحانات وطرق الانتقاء فلن نتعرَّض لحالتهم إلا ضمنيا وبشكل عامّ من خلال بعض ما سنذكره في هذا المقال. ولكن  تجدر الإشارة إلى أن بعض علامات هؤلاء الطلبة وتفاوتها تعكس خللا وتشوُّهات في طرق التقييم وتفتح بابا للتأويلات.

نشير بدايةً إلى أن مشروع المدرسة جاء بمرسوم رئاسي وتم توفير كل الإمكانات المادية حسب علمنا، كما أنه وبحسب الصور التي تصل، فإن الهيكل العامّ يبدو لا بأس به، حتى وإن غابت السبورات وغاب الطباشير، وهذا أمرٌ إيجابي وجب تثمينُه.

إن مساهمتنا في هذا النقاش الدائر حول المدرسة العليا للرياضيات، وبشكل عامّ المدرسة العليا للذكاء الاصطناعي وباقي المدارس العليا  الخاصة بالنخبة، ستكون من زاوية النوع ومدى كون هذه المدارس تعدُّ فعلا مدارس نخبة أم هي مجرد هياكل تستقبل النخبة والمتفوّقين.  وسنحاول أن نختصر قدر الإمكان ونتناول الموضوع في عدد من النقاط. كما أن الهدف من هذا المقال ليس القدح في أي شخص أو مسئول بعينه بقدر ما هي محاولة للإشارة إلى ممارسات واجتهادات نرى أنه وجب أن تصحَّح أو تستدرَك ولا أحد فوق النقد والتصحيح.

أولا، دعنا نذكر أن المدرسة العليا للرياضيات ومن قبل أن تكمل سنتها الأولى مرَّ عليها عمليا ثلاثةُ مديرين خلال ستة أشهر تقريبا آخرهم المدير الحالي، وكل مرحلة لها حيثياتها وأثرها، وهو أمرٌ غريب بالنظر إلى أن المدرسة وليدة أصلا.

ثانيا، اطَّلعنا على مناهج وبرامج الرياضيات سنة أولى التي اختيرت للتدريس هناك ومحتواها، بداية من النسخة الأولى التي أعِدَّت إبان مرحلة المدير الأول إلى النسخة التي اعتُمدت نهائيا، ولا نخفي أننا صُدمنا بمحتواها وبطريقة إعدادها. لا يمكن الخوض في كثير من التفاصيل ولكن وجدنا فيها مع كل أسف ما يدعو إلى الضحك والسخرية، ولقد أحدث هذا نقاشا داخل بعض الأوساط الرياضياتية الجزائرية لم يُسمع فيه للأسف لكافة الآراء الجادة والمختلفة، خاصة تلك الآتية من قامات علمية على دراية بتكوين النخبة.  وسنحاول تناول كيف تطورت هذه القضية وكيف تم وضع برامج ومناهج لمدرسة عليا للنخبة بطرق أقرب إلى الارتجال وغياب الرؤية ومراعاة المصلحة الشخصية.

في مرحلة المدير الأول وُضعت برامج يمكن القول إنها كانت بنفس آليات ومنطق وضع البرامج في الجامعات والمدارس اليوم، وهذا في إطار لجنة وطنية. تميزت هذه النسخة بكثرة المقاييس واعتماد نظرية الحشو نسبيا، مقاييس عديدة في الرياضيات (ثلاثة مقاييس)، فيزياء، كيمياء، بيولوجيا، إعلام آلي (مقياسان)، بمجمل ثماني  مقاييس في سداسي واحد. بل وصل الأمر إلى وضع مراجع من الخطأ الفادح أن يتصور أستاذٌ جامعي أنها مراجع للتدريس أو موجَّهة إلى الطلبة وخاصة طلبة سنة أولى أو طلبة تدرّج، ونخص بالذكر مثلا بعض كتب سلسلة بورباكي لمن يعرفها، وهنا ندعو المتخصص في الرياضيات أو العارف بهذه السلسلة أن يتصور معنا فقط طالبا جزائريا خريج منظومة تربوية مهترئة وسطحية وتلقينية يقال له في السنة الأولى إن أحد المراجع هو الكتاب “س” من سلسلة بورباكي، فهذا لا يحصل حتى في أرقى المدارس التحضيرية الفرنسية، لأن هذه السلسلة لم تُعدّ لهذا الغرض أسـاسا. ولكن تبقى هذه النسخة الأولى بكل عوراتها أفضل من النسخة المعدَّلة والتي اعتُمدت رسميا  مثلما سيتبيّن. فكما يقال، رُبَّ يوم بكيت منه فلما صرتُ في غيره بكيت عليه!

ثم جيء  بالمدير الثاني، ليتم التعديل والحذف والإضافة؛ فلقد تم مثلا إضافة مقاييس في الرياضيات لا يُعقل أصلا أن تُدرَّس في السنة الأولى، ولكن بعضها من تخصص صاحب القرار الجديد (مقياس لكل سداسي!)، وتم تعديل قائمة المراجع، إذ حُذف مرجع بورباكي مثلا -بعد موجة السخرية التي وصلتهم- ولكن المفارقة أنه تم حذف جميع المراجع من أهم مقياسين، الجبر والتحليل، وبعض المراجع التي أضيفت من عنوانها يتضح أنَّ مُعدَّ البرنامج لم يطَّلع على محتواها أصلا، ولو اطّلع أو أدرك مرحلتها ما وضعها. وبدل تصحيح الاجتهادات التي نراها خاطئة في النسخة الأولى زاد الأمر سوءا وساد الارتجال أكثر واستقر الأمر رسميا على برنامج بلغ فيه الحشو مبلغا خطيرا؛ عشر مقاييس في السداسي الأول وأحد عشر مقياسا في السداسي الثاني،  وغابت الرؤية تماما وأوتي  بمقاييس لا محلّ لها من الإعراب في هذه المرحلة التعليمية. والناظر مثلا إلى محتوى مقياس الجيوسياسة والإستراتيجية يُخيَّل إليه أننا بصدد إخراج قادة سياسيين ومحللين استراتيجيين وليس وضع الأساسات العلمية لطلبة سنة أولى رياضيات تطبيقية لا يزالون يتلمسون طريقهم، هذا بصرف النظر عن جدوى هذا المقياس أصلا في هذه المرحلة، اللهم إلا إذا كان الهدف هو الاستعراض. كل هذا  أدى لاحقا وخلال السنة إلى عمليات حذف وتعديل داخلية مخالفة لما هو موجود في البرنامج الرسمي المقرر في أكتوبر 2021.

في الحقيقة ليس المقام هنا مقام تفصيل، ولكن نقول إن برنامج الرياضيات والفيزياء والكيمياء في السنة أولى لمدارس النخبة مسألة ليست محل اجتهاد كبير، بل هي مسألة أقرب إلى المعلوم من الدين بالضرورة، وكان يكفي القائمين على اختيار البرامج أن يستنسخوا برنامج إحدى المدارس العليا في الخارج ويكفُّوا أنفسهم عناء هذه العشوائيات، لأنه لا اجتهاد مع وجود النص مثلما يقال، فما يحتاجه طالب الرياضيات -أيًّا كان تخصصه فيما بعد- هو إلمام حقيقي وعميق بأساسيات التحليل والجبر، وأساسيات الفيزياء والكيمياء. لأنه إذا وُضعت الأساسات بشكل سليم وقوي يمكن للبناء أن يعلو كما شاء، أما إذا كانت الأساسات هشّة ومبعثرة وفاقدة للرؤية فإن البناء لا يمكن له أن يستقيم أو يعلو.

ثالثا، إن برامج السنة الثانية يتم إعدادها الآن، وهو ما يعكس غياب أي تصور شامل لمشروع المدرسة، ولا يبدو أن هناك رؤية حقيقية وعملية لما ستكون عليه مخرجات هذه المدرسة، عدا بعض التصورات العامة التي لا قيمة لها عمليا. وقد نتفهم مثلا تأجيل وضع برامج السنوات الأخيرة المتخصصة الآن، ولكن أن يكون برنامج السنتين التحضيريتين غائبا ويتم إعدادُه بعد دراسة السنة الأولى وقبيل انطلاق السنة الثانية بشهر أو شهرين، فذلك يعكس فعلا مشكلة عميقة.

نشير هنا من باب الأمانة إلى أن اللجنة التي أشرف عليها المدير الأول أعِدَّت برنامجا كاملا لثلاث سنوات ولكن في نهاية المطاف لم يتم اعتماده وتم تعديل حتى مقترحات السداسيين الأولين مثلما أشرنا تعديلا جذريا نحو الأسوأ.

رابعا، السؤال الذي وجب طرحُه عند الحديث عن مدارس النخبة هو هل مستوى الأساتذة الجامعيين الذين اختيروا للتدريس في هذه المدارس العليا والخاصة بالنخبة يليق بمستوى هذه المدارس المتخصصة جدا وعالية المستوى (يفترض)، ولنخص بالذكر هذه المدرسة العليا للرياضيات؟

الإجابة هي لا طبعا، فليس كل الأساتذة في جامعاتنا اليوم مؤهَّلين لتدريس طلبة بهذا المستوى ولا قادرين على التعامل معهم، بل إن الأغلبية غير مؤهَّلة، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها لما آل إليه وضع الجامعات الجزائرية من ناحية والنزيف الرهيب للمتميزين وهجرتهم إلى خارج الجزائر من ناحية أخرى.

ومع كل أسف فإن الآلية التي تم بها اختيار أساتذة المدرسة العليا للرياضيات وبقية المدارس العليا لم تكن فيها أي عملية انتقاء حقيقية لأساتذة درسوا في جامعات مرموقة وحصلوا على تكوين علمي صلب – مع حفظ  الاستثناءات طبعا- ولهذا  نقول إن النخبة لا يمكن أن تكوِّنها إلا نخبة الأساتذة، أساتذة لديهم مَلَكات في التدريس وقادرون على أن يكونوا مصدر إلهام لهؤلاء الطلبة ودفعهم نحو حب التخصصات المدرَّسة، وإذا لم نفعل ذلك فإننا سنكون بصدد تدمير النخبة من الطلبة، وبل حتى إفساد مؤهِّلاتهم الطبيعية، مثلما يحصل في مرحلة ما قبل الجامعة؛ فالمنظومة التربوية أصبحت تقضي على القدرات الطبيعية للتلاميذ، ومن ينجو منهم تتكفل به الجامعة ومدارس النخبة.

ونشير في هذا السياق إلى أننا اطَّلعنا على بعض نماذج الامتحانات في المدرسة العليا للرياضيات فوجدناها امتحاناتٍ أقل من عادية وأسهل من امتحانات بعض الجامعات أو أغلب الجامعات، حتى لا نقول أكثر، مما يوحي أننا لسنا أمام تكوين نخبة.

إن  أخشى ما نخشاه هو أن يكون حال هذه المدرسة شبيها بحال المدارس التحضيرية التي فشلت وأفشِلت ووُئدت، إذ اختير لها أفضل الطلبة ولكن وُجِّه إليها أساتذةٌ عاديون، بعضهم أو كثير منهم لم يجدوا مناصب دائمة في الجامعات وآخرون يدرِّسون ساعاتٍ إضافية، كثير منهم حاصل على ماجستير فقط، بينما يُفترض في هذه المدارس أن يُختار لها أفضل الأساتذة من الناحية العلمية والبيداغوجية مثلما هو الحال في المدارس العليا والتحضيرية في فرنسا، قبلة الكثيرين ومرجعيتهم.

بدل تصحيح الاجتهادات التي نراها خاطئة في النسخة الأولى زاد الأمر سوءا وساد الارتجال أكثر واستقر الأمر رسميا على برنامج بلغ فيه الحشو مبلغا خطيرا؛ عشر مقاييس في السداسي الأول وأحد عشر مقياسا في السداسي الثاني،  وغابت الرؤية تماما وأوتي  بمقاييس لا محلّ لها من الإعراب في هذه المرحلة التعليمية.

ونشير في هذا السياق أيضا إلى أنه كان لنا تواصلٌ مع أحد المبادرين بفكرة ومشروع هذه المدرسة، والنقطة الرئيسة التي أثرناها معه هي نوعية الأساتذة والمكوِّنين الذين سيُختارون لهذه المدرسة وكيفية التغلب على هذه الإشكالية التي أقرَّ بوجودها.  ومما اقترحنا عليه كانت صيغة للاستعانة ببعض الأساتذة الجزائريين وحتى غير الجزائريين من الخارج والذين نراهم مؤهَّلين فعلا لتقديم شيء ذي قيمة لهؤلاء وتكوينهم تكوينا نوعيا تدرّجيا. والمفارقة أنه أخبرنا بأن لديهم بعض الأفكار والتصورات ذكر بعضها، ولكن الشاهد أن لا شيء من ذلك جُسِّد على أرض الواقع.

الناظر إلى محتوى مقياس الجيوسياسة والإستراتيجية يُخيَّل إليه أننا بصدد إخراج قادة سياسيين ومحللين استراتيجيين وليس وضع الأساسات العلمية لطلبة سنة أولى رياضيات تطبيقية لا يزالون يتلمسون طريقهم، هذا بصرف النظر عن جدوى هذا المقياس أصلا في هذه المرحلة، اللهم إلا إذا كان الهدف هو الاستعراض.

خامسا،  لقد حاولنا أن نطلع على الموقع الإلكتروني لهذه المدرسة لنعرف المزيد عنها من خلالها بوابتها الإلكترونية، ولكن عند زيارتنا له لم نجد فيه شيئا يمتُّ للأكاديمية والعلم الدقيق بشيء، بل مجرد معلومات إنشائية أدبية عامَّة، فلا تجد برامجَ ولا مقرراتٍ ولا أسماء الأساتذة، ولا إعلاناتٍ ولا شيئًا من هذا القبيل، بل مجرد صفحة باهتة مستعارة بنسختين عربية وفرنسية! فكيف لمدرسة يفترض أنها تعِدّ نخبة النخبة لا يكون لها مرآة إلكترونية في هذا العصر الرقمي؟

ما يحتاجه طالب الرياضيات -أيًّا كان تخصصه فيما بعد- هو إلمام حقيقي وعميق بأساسيات التحليل والجبر، وأساسيات الفيزياء والكيمياء. لأنه إذا وُضعت الأساسات بشكل سليم وقوي يمكن للبناء أن يعلو كما شاء، أما إذا كانت الأساسات هشّة ومبعثرة وفاقدة للرؤية فإن البناء لا يمكن له أن يستقيم أو يعلو.

والمفارقة الأخرى التي وجب ذكرُها هنا أن كل التصريحات الرسمية وغير الرسمية كانت تشير إلى أن لغة التدريس ستكون الانجليزية، وربما أغلب الطلبة كانوا يعتقدون ذلك ولكنهم لما جاءوا المدرسة لم يجدوها ووجدوا الفرنسية سيدة التدريس والتعامل.

أخيرا، إذا  أردنا  أن نلخص المشهد نقول: إنه منذ عقود عديدة، بل منذ الاستقلال، فشلنا في بناء مؤسسات علمية حقيقية ترعى النخبة والمتميِّزين، فهم من يُفترض أن يصنعوا المرجعية العلمية ويقودون قاطرة البحث العلمي والتكنولوجي والتكوين النوعي الذي بدوره يمنع استشراء الرداءة. ولقد تسبَّبت هذه السياسات العرجاء وغياب الرؤية في نزيف كلي للكفاءات التي كان من المفترض أن تصنع المرجعية العلمية في التخصصات المختلفة، وغدت جامعاتنا أقرب إلى دور الرعاية الاجتماعية فاقدة للأهداف ومقبرة للمتميزين أو طاردة لهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!