الرأي

المستعمرة اليهودية

لا أقصد بـ “المستعمرة اليهودية” أي مكان جرى التفكير فيه لجعله “وطنا” لليهود الذين كانت أوربا قد ضاقت بهم ذرعا لما فيهم من دنيء الأخلاق وسافل السلوك، حتى إن الأوروبيين أطلقوا على أولئك اليهود اسم “جراد أوربا”، ومن الأماكن التي اقترحت لتوطين اليهود أو جزء منهم” قبرص، أوغندا، ليبيا..(1) ولا أقصد بها أية قطعة من أرض فلسطين المجاهدة التي اغتصبها الخبث اليهودي المدفوع والمسنود بالطغيان المسيحي – المتصهين، ولا أقصد بها منطقة الجولان السورية التي “أهداها” حزب البعث الذي يكفر بالبعث إلى اليهود، وشعاره هو “إن سقطت دمشق فيمكن استرجاعها، وإن سقط البعث فمن الصعب استرجاعه”؛ ولكنني أقصد هذه الدولة التي أتقرّب إلى الله – عز وجل – بكرهها لما اجتمع فيها من أسوإ السوء، والتي هي كالضفدعة في قصيدة أحمد شوقي “تنقنق الدهر بلا علّة، وتدّعي في الماء ما تدّعي” من “حرية، ومساواة، وأخوة”.. إنها فرنسا…

إن الشخص الذي ألهمه الله – عز وجل – إطلاق هذا الاسم على فرنسا هو ذلك العلامة الجليل محمد البشير الإبراهيمي الذي أكرمه الله – الكريم – بالفكر الجوّال، واللسان القوّال، والقلم السّيّال، الذي وصفه الإمام عبد الحميد ابن باديس وصفا جامعا مانعا وهو الكاتب النابغ” والمحاضر العبقري، والدّاهية الهادئ (2)”، وإن الإمام ابن باديس لأكبر من أن يكذب على الله وعلى عباده فيحمد شخصا بما ليس فيه، وبما لم يفعل، وإنه لأشرف وأكرم من أن يحسد شخصا على ما آتاه الله من فضله فيبخسه أشياءه.. فرحم اللهالرحمان الرحيم – الواصف والموصوف.

لقد أطلق الإمام الإبراهيمي على فرنسا وصف “المستعمرة اليهودية” وماهو بظلاّم لها، وذلك في مقال كتبه في جريدة البصائر المجاهد تعليقا على موقف فرنسا في مجلس الأمم “المتحدة على الباطل” – كما وصفه الإمام الإبراهيمي- في شأن القضية الفلسطينية، ذلك الموقف الذي جسّد “كل ما في العرق اللاّتيني من حقد وقاح، وبغض صراح”. أكد الإمام الإبراهيمي ذو البصر الحديد، والعقل الرشيد، والفكر السديد، والقلم الفريد في ذلك المقال أنه لا يجهل تغلغل الصهيونية في فرنسا، وتحكم اليهودية في كل مرافقها، وفي جهازها الحكومي، وفي كيانها الذي هي به أمة؛ و”بل نعدّ فرنسا ومستعمراتها كلها مستعمرة واحدة يهودية (3)”.

تذكّرت هذا الوصف الإبراهيمي لفرنسا وأنا أتابع “المندبة” التي أقامتها فرنسا العنصرية من أجل ثلاثة أطفال يهود معلمهم، قُتلوا في مدين تولوزن، فهذا ساركوزي يطير في حشد من المسئولين المدنيين والأمنيين إلى تولوز تاركا “هملته الانتخابية” ذارفا دمومعه الانتخابية، فلا ننسى أن المقتولين إخوته في ديانته الأصلية، وهذا وزيره للداخلية كاد يقطع المسافة بين باريس وتولوز زحفا، تمثيلا لألم اصطناعي، وهذا وزيره للخارجية رمى مشاكل العالم وراء ظهره وغطّى “صلعته “بطاقية يهودية يحتفظ بها لهذه المناسبات الاستعراضية، وهؤلاء رؤساء الأحزاب يعبرون عن حزنهم العميق، وأساهم البليغ، وتضامنهم الكبير مع أهالي أولئك الضحايا، وأقسم بالله الذي خلق الحبّ والأبَّ أن هذه المشاهد السينمائية كلها ليست لإنسانية فيهم، ولا لعاطفة نبيلة لديهم، ولا لقلوب رقيقة – ولو على قراءة الجواجلة – عندهم؛ ولكن ذلك كله لأن المقتولين يهود، ولأن القاتل “مسلم” ولو كان فرنسيا..

إن الدليل الساطع، والبرهان القاطع على أن فرنسا “مستعمرة يهودية” هو أنه قبل حادثة مقتل الأطفال اليهود ومعلمهم ببضعة أيام قتل في المدينة نفسها ثلاثة من الجنود الفرنسيين (اثنان من أصل جزائري وثالثهما إفريقي) السّاهري على أمن فرنسا، المستعدين للدفاع عنها والموت في سبيلها، و”القاتل” هو هو، فما بكت عليهم عين فرنسي، ولا صعدت زفرة من صدر فرنسي حسرة عليهم، ولا تحركت شعرة في رأس ساركوزي ولا مساعديه، ولا منافسيه، فلكل منهم شأن يعنيه ويغنيه.

إن هذه “المندبةالكبيرة التي قامت في فرنسا من أجل هؤلاء اليهود الأربعة ليست حبا فيهم، فنحنالجزائريين – الأقحاح نعرف مشاعر أكثر الفرنسيين الأصليين نحو اليهود ومقدار كرههم لهم، ولكن هؤلاء الفرنسيين – خاصة السياسيين – فعلوا ما فعلوا لأمرين اثنين تزول الجبال الشامخان من أماكنها ولايزول هذان الأمران من نفوس هؤلاء الفرنسيين، والأمران هما:

) منافقتهم لليهود رغبا ورهبا لما في أيديهم من مال وإعلام، وهما سلاحا اليهود الذين يشترون بهما الذمم، ويستنزلون بهما الهمم ممن ذممهم حقيرة، وهممهم صغيرة.

) حقدهم الشديد على المسلمين وهذا الحقد ليس حديثا؛ بل نشأ في قلوبهم منذ أول لقاء بين المسلمين وبينهم، ولسنا ممن يغرّون بتلك الضحكات “الصفراء” التي يرسمونها على شفاههم إن جمعتنا بهم مناسبات.

إنني أتحدى فرنسا أن تكذب وصف الإمام الإبراهيمي لها بأنها “مستعمرة يهودية” بأن تقف – ولو مرة واحدة – موقفا شريفا، نبيلا، شهما في وجه الغطرسة اليهودية التي تقتل يوميا أطفال فلسطين.

إننا نأسف لموت أولئك الأبرياء الذين قتلوا في تولوز، فنحن الذين علّمنا الإنسانية “الرحمة” ولكن الذي يجعلنا نبدو – أحيانا – لامبالين بما يصيب غيرنا هو عنصرية أكثر المسيحيين واليهود، وقساوة قلوبهم، ووحشية سلوكهم تجاهنا، ومن كان في هذا الأمر يمتري فليقرأ مذكرات مجرم فرنسي واحد هو سانت آرنو، الذي صيره ساركوزي نبيلا يفتخر به، ولينظر أيضا إلى ما يفعله اليهود الصاهينة في فلسطين..

وليقرأ ما أوردته جريدة “الشروق اليومي” عن ذلك المجرم الفرنسي المسمى فرديناند ميسونيه الذي لم يجد ما يفتخر به في حياته المتوحشة إلا قوله: »لم أفعل في حياتي أجمل من قطع رؤوس الجزائريين (4)”، التي بلغ عددها 200 رأس، وهل يستغرب هذا ممن أسلافه هم دوروفيڤو، وبيليسيي، وبيجو، وكافينياك، وماكماهون، وأمثالهم كثير، الذين لم يلدوا إلا وحوشا في صور بشرية..

ولكي يتأكد كل من يقرأ هذا الكلام من أن الغربيين عموما، والفرنسيين خصوصا، هم أبعد ما يكونون عن الإنسنية التي يتشدقون بها لتحقيق مآرب ونيل مكاسب فليعلم أن دارا فرنسية في الدائرة الثامنة عشرة في باريس ستنظم “مزادا علنيا” يوم 3 أفريل القادم “من أجل بيع تلك الأدوات التي كان يستعملها ذلك المجرم – بأمر ممن هم أكثر منه إجراما – في قطع رؤوس الجزائريين وإن عدد ما سيعرض من تلك الأدوات هو 350 آلة.

إنني لا أستغرب من أي أمر قبيح تقوم به فرنسا، وسأستغرب حقيقة لو يصدر عنها ما يخالف طبيعتها التي جبلت عليها ونحن الجزائريين الشرفاء أعرف الناس بها؛ ولكنني أستغرب أيضا من هؤلاء الحركى” المقيمين بيننا، ويخربون – عن طريق موقعهم في مؤسساتنا- وطننا، ويسعون لجعل الجزائر ذيلا لفرنسا، والجزائريين “خولا” لها، وهم يلهثون وراءها كمن »إن تحمل عليه يلهث أوتتركه يلهث« لعلها “ترضى” عنه.

 

الهوامش:

1) عن مشاريع الاستيطان اليهودي، انظرك أمين عبد الله محمود: مشاريع الاستطيان اليهودي منذ قيام الثورة الفرنسية حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، سلسلة عالم المعرفة. رقم 74، الكويت، 1984.

2) جريدة البصائر (سلسلة 1) ع 137. في 28 أكتوبر 1938. ص1.

3) جريدة البصائر (سلسلة 2) ع 38 في 7 جوان 1948. ص1، وآثار الإمام الإبراهيمي. ج3، ص 460.

4) جريدة الشروق اليومي: 25 مارس 2012 ص3.

مقالات ذات صلة