-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المسرحي الدّكتور صالح لمباركيّة يعود إلى الرُّكح الجامعي

المسرحي الدّكتور صالح لمباركيّة يعود إلى الرُّكح الجامعي

مع مطلع الموسم الجامعي، عاد المسرحي الفقيد الدكتور صالح لمباركية (أفريل 1948ـ  أفريل 2015م) اسما وصورة إلى ركح الحياة الجامعية متأبطا أوراق متنه المسرحي المكتظ بمنجزاته الثرية والمتنوعة بشقيها الإبداعي والبحثي بفضل نشاط ثقافي خصه به مخبر “الشّعرية” الذي ينشط تحت مظلة قسم اللغة والأدب العربي والفنون لجامعة باتنة الأولى. ومن باب فضيلتي الاعتراف والوفاء، أقام له ملتقى وطنيا في يوم الحادي عشر من شهر أكتوبر الجاري، ومنح له عنوان: “أعمال المسرحي الجزائري الدكتور صالح لمباركية).

في وقفة جانبية خاطفة قبيل انطلاق أشغال الملتقى، أوجز لي الأخ الدكتور جمال سعادنة رئيس المخبر المذكور الدافع الذي حمل مجموعته للإقدام على هذه المبادرة  بقوله: (إن هذا الملتقى هو تثمينٌ مغموس في عطر الوفاء لتجربة المرحوم الدكتور صالح لمباركية الذي بذر طلائع بذور هذا التخصص في جامعة باتنة. وإن تجربته المكتنزة التي تدفّقت مياهُها في مسارات شتى أحاطت بكل ما يخدم المسرح الجزائري خدمات ذات أبعاد أكاديمية ألبسته الكساء العلمي بكل ما فيه من اجتهادات وتوجهات ونظريات. ولا ينتدب لخدمة المسرح أبي الفنون إلا من يعطيه متطوّعا من مهجه قبل أن يمنحه من رضاب فكره ومن مداد قلمه، ويكدح في سبيله كدحا ملفتا).

ما لا يعرفه الناس، هو أن الدكتور صالح لمباركية قد وُلد مسرحيا بالفطرة وعن طبع، وجاء إلى الحياة وفي جيناته الوراثية حمولة استعدادية متوارية أهَّلته للسير في طريق التمثيل. ومن يعرف والده الرجل العابد الزاهد في دنياه وأعمامه لا يستغرب فيه هذا الميل الجبلي الذي استعبده منذ صباه. فقد كانوا كلهم يحسنون توليد النكت والفذلكات في كلامهم من خلال ليِّ أعناق مقدِّمات أحاديثهم، وجعلها تفضي إلى نهايات مضحكة. وكانوا كلما جلسوا مجلسا إلا واكتظ عدد أفراده بحثا عن الدعابة السارة والكلمة المثيرة والضحك المسلي.

عشق الدكتور صالح لمباركية الوقوف على خشبة التمثيل عن موهبة منذ صغره، وشغل نفسه بالمسرح باكرا، وانطلق فيه هاويا منذ أن أسس مع بعض زملائه فرقة مسرحية في نادي معلمي ولاية باتنة في آواخر ستينيات القرن الماضي. ولما التحق بالجامعة، فتحت أمامه أبواب خدمة الفن المسرحي خدمة علمية راقية حتى أصبح محترفا فيه وذا مهارة. وزاد تعلقه به لما اكتشف دوره الرسالي في تثقيف وتنوير أبناء المجتمع، وإضاءة السبل التي يسلكونها. وراح يقرن جهده بجهود غيره من المسرحيين الجامعيين الجادين لإخراج المبادرات المسرحية الجزائرية التي نشأت منذ عهود بعيدة من ضيق المحلولات المعزولة والكهوف المظلمة إلى النور الوهّاج حتى تكون مادة أوَّلية تقبل المدارسة، وتصلح لكي تكون حقولا زاخرة يرجع إليه للتأصيل والتنظير. وكانت روافد هذه المجاري وبداياتها تصبُّ كلها في رسم ملمح متفرد للمسرح في الجزائر، وجمع مزاياه ومواصفاته التي تصنع تميّزه.

يرسم تنوع الجمهور المتنوّع الذي لبّى الدعوة رغم قلته نسبيا، يرسم صورة صادقة وناطقة عن المنجَز المسرحي الذي كافح من أجله الفقيد المحتفى بأعماله، فالمسرح عنده لم يكن نخبويا ووقفا على طائفة المختارين من المجتمع ومن ذوي المؤهلات العلمية العليا، وإنما أراده مسرحا منفتحا وملامسا لكل الطبقات المجتمعية حتى تكتمل رسالته. ولعل لهذا السبب اجتهد في كتابة بعض مسرحياته باللهجة التي درجت عليها ألسنة العامة ومتخليا عن اللغة الفصحى حتى لا تكون عقبة وحاجزا أمام بعض طوائف مخاطبيه.

لمست احتراما كبيرا ووفاء منقطعي النظير نابعين عن تقدير ومندسين في قلوب طلبة الدكتور صالح لمباركية، وظلوا يتحدثون عنه أمام الحاضرين كالأبناء البررة الذين لم ينسوا فضل أستاذهم، ولم يضِنوا عليه بعبارات الإجلال والإكبار والتمجيد. وقرأت في كلمات كل واحد منهم ثناءً غاليا يجسِّد متانة العلاقة الروحية التي جمعته به. ومن أجمل الكلمات التي سمعتها وأطربت أذني هو قول إحدى طالباته الكرائم: (ليس من حق عائلة الدكتور صالح لمباركية أن تحتكره لوحدها، وأن تستفرد به لنفسها، فنحن أيضا نشكل جزءا من عائلته، وبنا تكبر هذه العائلة وتتسع). وفي المقابل، حضر أيضا بعض ممن ظلموه في الحرم الجامعي وخارجه، وكادوا له كيد أبناء يعقوب لأخيهم يوسف وعلى وجوههم شحنات الشحوب والاصفرار، وكأنهم أحسوا بذنب اقترفوه في حقه، وجاؤوا، سامحهم الله، لتكفيره وتغطيته أمام الملأ.

قد أكون مجانبا للدقة والصواب، لو أشرت بالقول إلى أن الأهداف المسطرة لهذا الملتقى قد صيغت برؤى طموحة، وبنظرات عالية، وأرادت أن تحيط بكل ما يتعلق بالمنجز المسرحي للدكتور صالح لمباركية، وأن تحتضن كل دقائقه وتفاصيله وفُتاته ونتفه. ولم يقدّر هذه الإتخام الغارق في التوق إلى بلوغ البعيد المأمول، والذي لم يمرر على كفة التقويم منذ البداية حين كتب على أوراق التحضير، لم يقدّر أن الطموح المبالغ فيه قد ينسف بشطر من الأهداف المدوّنة، ويبقيها معلقة، ومن دون تنفيذ عملي.

يرسم تنوع الجمهور المتنوّع الذي لبّى الدعوة رغم قلته نسبيا، يرسم صورة صادقة وناطقة عن المنجَز المسرحي الذي كافح من أجله الفقيد المحتفى بأعماله، فالمسرح عنده لم يكن نخبويا ووقفا على طائفة المختارين من المجتمع ومن ذوي المؤهلات العلمية العليا، وإنما أراده مسرحا منفتحا وملامسا لكل الطبقات المجتمعية حتى تكتمل رسالته. ولعل لهذا السبب اجتهد في كتابة بعض مسرحياته باللهجة التي درجت عليها ألسنة العامة ومتخليا عن اللغة الفصحى حتى لا تكون عقبة وحاجزا أمام بعض طوائف مخاطبيه.

تحوّلت بعض المقاربات التي حاولت الأوراق المقدمة أن تنقلها للحاضرين إلى مفارقات أحيانا. وأعذار أصحابها التي تبرِّئهم مقبوض عليها في أيامن وشمائل أكفهم بكل رفق وعطف. ومن المحتمل أن يكون ضيق وقت إعداد المداخلات وكثافة المادة المتوفرة نسبيا بين أيديهم والتداخل بين الأهداف هي من أجلّ الأسباب المقعدة. ومع ذلك، فإن كل الأوراق المطروحة حملت إشارات وكشفت عن بيانات وإضافات فيها من طعم الجديد المطروق ما يغني ويفيد. ويا حبَّذا لو يستغرق البحث في مناسبات أخرى في هذه النقاط المكتشَفة بمعاول الجد لإبرازها أكثر وإشباعها نبشا وعلاجا وشرحا مستفيضا. ومن بين هذه النقاط، يذكر السجال الذي وقع بينه والمسرحي المعروف مخلوف بوكروح حول قضايا تاريخية تتعلق بالمسرح في الجزائر ولغته التي يكتب بها والتي صُنِّفت في خانة السهل الممتنع وطغيان الشخصيات الرجالية في مسرحياته ودوره في بعث وإخراج أوبيرات الشهيد مصطفى بن بولعيد…

من بين العلامات التي استقطبت نظري، وقد يكون لتخصصي العلمي دخل في ذلك، هي ابتكار الدكتور صالح لمباركية لطريقة مستحدثة في تقويم طلبته، ولا أظن أنه سبقه غيرُه في الجامعة الجزائرية وأقدم على ممارستها قبله، فقد تمرد على الطرائق التقليدية التي لا تخرج عن نطاق الأسئلة المباشرة التي تفرض على الطلبة الاعتماد على الحفظ من دون استيعاب أحيانا، وتفرض عليهم الاستظهار الأعمى. وكان يمتحنهم من بعد اصطحابهم إلى مسرح المدينة، وجعل العروض المسرحية الحية التي يتابعونها سندات لبناء تقويمهم من خلال أسئلة تفتح أمامهم السبيل لتوظيف مكتسباتهم النظرية المحصلة في المدرجات واستغلالها لبلورة حلول للإشكاليات التي يطرحها عليهم. وتسمح هذه الطريقة للطلبة بتقديم إنتاجات تُظهر التباين في قدراتهم إظهارا لا يتسرب إليه الخطأ أثناء الحكم على ما قدَّموه. وهذا ما توصي به البيداغوجيات الحديثة التي تريد أن تضع المتعلم في قلب العملية التعليميةـ التعلمية، وأن تجعله محورها الرئيس وركيزتها الأساس.

مثلما كان الملتقى الذي خُصِّص للأخ صالح لمباركية تعبيرا عن الوفاء الذي سكن قلوب محبيه من زملائه وأصدقائه وطلبته، فإنه، أيضا، كان لحظة للانفعال والتأثر عند بعضهم. ومن ينظر إليه نظرة موضوعية منسلخة عن العواطف، يدرك أن المحتفى بإنجازاته قد ضرب مثلا ملموسا وعمليا عن بناء جسور التواصل بين الأجيال. وبحكم القرابة العائلية، فقد وجدت عزاء إضافيا في الخسارة التي لحقت بنا بعد فقدانه في البذور التي بذرها في تربة الجامعة المعفرة، ورعاها في منابتها حتى انتشت ونمت واستطالت سيقانها وأورقت وأزهرت جمالا وبهاء، وها هي اليوم تعطي ثمارها اللذيذة في سخاء وكرم.

بكل امتنان ومحبة وود أخوي، يطيب لعائلة الفقيد صالح لمباركية الصغرى أن تسدي باقات الشكر وأكاليل الإطراء إلى أفراد عائلته الكبرى. وأن تثني ثناء رائعا رائقا على الجهد المشكور الذي بذلته عريفة الملتقى الدكتورة نجية محمد طهّاري و”وصيفاتها” الخدومات الرشيقات. وأن تشدّ بيديها على يد وزند الأخ الكريم الدكتور جمال سعادنة شدا حارا تقديرا لمسعاه الجليل ولما وفّر للقاء من رعاية وعناية، وبما أظهره من حسن استقبال وحفاوة نقية لا مأرُبة فيها لكل المدعوين، وأن تحيّي الدكتور المفضال لخضر بلخير عميد الكلية وعمود خيمتها الذي نعده من بين أحق الناس للحديث عن الفقيد نظرا لطول عمر الصداقة التي ربطتهما وقاربت أربعين سنة. أما من ظلموا صالحا، فليذهبوا غير مأسوف عليهم، فهم الطلقاء، ولنترك أوراق الحساب ليوم الحساب.

عندما يُسدل الستارُ عن الملتقى الجامعي المخلد لذكرى الفقيد صالح لمباركية، فإن الستار نفسه لن يُرخى على النظر في كنوز أعماله المسرحية دراسة ومتابعة ونقدا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!