-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المسلمون ومرحلة الغثائية

حمزة يدوغي
  • 1327
  • 0
المسلمون ومرحلة الغثائية

هناك حقيقة مافتىء يؤكدها المتبصرون من المفكرين الأسوياء في الغرب والشرق على حد سواء هي أن الذي يحتاجه عالمنا اليوم القائم على “التطور الكمي والعنف” ليس مزيدا من القوة والقدرة على تسخير الكون والطبيعة، فذلك مجال قد حققت فيه العلوم التكنولوجية تقدما مذهلا، وإنما الذي يحتاجه عالمنا اليوم هو “منظومة قيم أخلاقية إنسانية” يؤمن بها الجميع ويقدسها الجميع تظل متأججة في الضمائر والنفوس، لأن أزمة عالمنا اليوم هي أزمة أخلاقية، أزمة مرجعية.

 إن الفراغ العقيدي والأخلاقي قد يعود بالبشرية إلى عهود الظلام والجهل فيصبح من جديد قانون القوة هو دستور العلاقات بين الشعوب والأمم، ويصبح التوجس وسوء الظن بالآخر والتربص به هو الذي يلوّن هذه العلاقة فتغيب معاني الاستئناس والتحاور والتعارف والتعاون ويترسخ مبدأ خير الدفاع الهجوم الذي سيذكي حتما التنافس في التسلح وما يتطلبه من الإنفاق بسخاء على حساب العمل من أجل تحرير الإنسان من ثالوث التخلف والهوان الجهل والفقر والمرض.

وهكذا التراكم الضخم مجهولة المصير، تنظر إلى المستقبل بهذا المنطق الذي فرض نفسه فرضان وجعل الكرة الأرضية – كما نعلم جميعا – قرية إلكترونية معقدة متشابكة، فأصبح بإمكان أية هزة تصيب جزءا قاصيا منها أن يحدث اضطرابا في شتى مناحي الحياة في الأجزاء القاصية الأخرى، كما أصبح لأي انتصار جديد يحققه الإنسان في مجال العلوم التجريبية تأثير مباشر في التفكير والسلوك الفردي والجماعي !

إن المتفائلين من رجال الفكر والدين والسياسة يؤمنون بأن حجم الآلام التي عانتها البشرية خلال نصف القرن الأخير قد أكسبها نضجا ووعيا رشيدا بحتمية التعاون من أجل تحقيق الأمن والسلام في العالم، وإذا جرت العادة أن نسمي كل حقبة من حقب التاريخ بأغلب سمة فيها، فكان عصر النهضة مثلا، وعصر التكنولوجيا، فإن القرن الواحد والعشرين سيكون عصر الحوار والتعايش بين الأديان والثقافات والحضارات، عندما تسود منظومة أخلاقية إنسانية يحترمها الجميع.

غير أن أصحاب هذه النظرة المستقبلية المتفائلة يستحضرون مع ذلك بكل وعي الوجه السلبي والمظلم لهذه الظاهرة التي فرضت نفسها بقوة، ألا وهي العولمة التي كشفت في عقد واحد من الزمن ما تنطوي عليه من تناقضات صارخة بين ما يعلن عنه من مبادىء وبين ما يجسد في الواقع المعيش، بين الدعوة إلى التمكين لقيم الديموقراطية وحقوق الإنسان واحترام حق التميز والاختلاف، وبين تكريس عولمة انتقائية إقصائية وأحادية تفرض على الآخر إلاء خصوصياته الثقافية والدينية ليذوب في قالب نمطي موحد.

ويوازي ذلك كلمة ويعززه التنظير المتنامي لمقولة “حتمية الصراع بين الحضارات” وبشكل خاص بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية.

وهي مقولة أخذت – كما نعلم جميعا- حظا وافرا من الاهتمام والدراسة والبحث، ولا يخفى على أحد تهافت هذا التنظير لأنه يعارض منطق الصيرورة التاريخية للإنسانية وسنة الله في خلقه التي شاءت أن تكون الحكمة من التميز والتنوع والتعدد هي تحقيق الثراء والتكامل عن طريق التعارف والتعايش في إطار الوحدة الإنسانية الجامعة، فالله سبحانه واحد والكون واحد والإنسان واحد والدين في جوهره واحد، فكلمة “أديان” هكذا بصيغة الجمع لم ترد في القرآن الكريم، والدين لم يرد إلا مفردا، قال تعالى “وأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” إن هذا البعد الإنساني بمعناه الصحيح الشامل هو الذي تفتقده الحضارات المعاصرة فجعلها تعاني اليوم ما تعانيه من تشنج واضطراب وتوتر في علاقة بعضها ببعض.. وهو الذي ينتظر من الأمة الإسلامية أن تقدمه لأن خصائصها الذاتية تؤهلها لذلك باعتبارها صانعة الحضارة الإسلامية، فأرقى حضارة نعمت بعطائها البشرية لا تصنعها إلا سليلة خير أمة أخرجت للناس، شريطة أن تستحضر بوعي كاف أن هذه الخيرية إنما تكون بالريادة لا بالوراثة كما لا يخفى عن أحد.

إن أبرز خاصية من خصائص الحضارة الإسلامية أن حضارة إنسانية لا حضارة جنس، وهي حضارة تفاعل وتأثر وتأثير وأخذ وعطاء، وهي حضارة استقبال انتقائي قاعدته “الحكمة ضالة المؤمن” تأخذ من عند الغير ماهو صالح نافع فتذيبه في منظومتها هي، فيفقد بذلك هذا المنتقى المأخوذ من الغير صفته الذاتية ويصبح جزءا متلاحما مع مضمون جيد، وهذا سرّ عظمة الحضارة الإسلامية وحيويتها وقدرتها على العطاء عبر التاريخ، وهذا ما عبّر عنه المستشرق كولد سيهر بقوله: “إن الإسلام أكد استعداده لتمثّل الأراء وصهر العناصر الأجنبية في بوتقة واحدة”.

فهل في مقدور المسلمين اليوم أن يقدموا للبشرية هذا البعد الإنساني الحضاري العالمي الذي تفتقر إليه؟!

وهل في مقدورهم أن يجسدوا هذا البعد في كيان حضاري متميز نموذج رائد يقنع الغير بأن الإسلام هو وحده الذي كرم الإنسان كإنسان قبل أن يعرض اعتبارات الجنس والدين واللغة والموطن “ولقد كرمنا بني آدم” وهل في مقدورهم أن يقنعوا العالم بأن احترام هذه الكرامة هو الضامن الوحيد لسواد تلك المنظمة الأخلاقية الموحدة التي تمكن كل إنسان – أياما كان موقعه – من أن يساهم – بصدق وفعالية – في التمكين لمبادىء الحرية والعدل وتحقيق الأمن والسلام في العالم، وتجسيد مبدأ الحوار والتعاون من أجل استثمار التميز الطبيعي بين البشر والتنوع والتعدد لإسعاد الإنسان… كإنسان.

هل في مقدور المسلمين اليوم ذلك وهم يعيشون مرحلة “الغثائية” التي أشار إليها الحديث النبوي الشريف طبل انتم يومئذ كثير.. ولكن غثاء كغثاء السيل”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
  • الطيب

    شكرا يا دكتور على هذا التشخيص
    كل العالم بمختلف الوانه واطيافه متفق معك
    ولكن اين الحل ؟
    على مفكرينا انشاء مجلس فكري مستقل يدلي بارائه في كافة مجالات الحياة
    مثل مساعدة وزارة التربية في انشاء منظومة تربوية تخرجنا مما نحن فيه

  • All we need is love one another

    Imagine no possessions
    I wonder if you can
    No need for greed or hunger
    A brotherhood of man
    Imagine all the people
    Sharing all the world...

    You may say I'm a dreamer
    But I'm not the only one
    I hope someday you'll join us
    And the world will live as one

    By John Lennon

  • All we need is love one another

    "I M A G I N E"

    Imagine there's no heaven
    It's easy if you try
    No hell below us
    Above us only sky
    Imagine all the people
    Living for today...

    Imagine there's no countries
    It isn't hard to do
    Nothing to kill or die for
    And no religion too
    Imagine all the people
    Living life in peace

    ......Continue

  • ابراهيم

    إن الفكر والأخلاق بينهما تلازم
    لا ينفكان عن بعضهما البعض
    فإن استقام الفكر استقامت الأخلاق
    يقول الله تعالى: (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)
    فكان الفكر الصحيح حاجزا عن الوقوع في الجريمة
    أسأل الله أن يمُن علينا جميعا بفكر سليم وأخلاق راقية حميدة