الرأي

المطبعة‮ ‬العربية مَعلَم‮ ‬وطنيّ‮ ‬مجهول

كان الصراع العنيف الذي جرى – ومايزال جاريا- في منطقتنا مع القوى الأوروبية – والفرنسية بالتحديد – في ظاهره وباطنه، ومنذ بدايته إلى نهايته التي لا يعلمها إلا من أحاط بكل شيء علما، سبحانه وتعالى “ما هو سوى مواصلة عمل أعمق وأوسع، وهو مكافحة المسيحية للاسلام…‮ ‬وهكذا‮ ‬نرى‮ ‬كيف‮ ‬أن‮ ‬احتلال‮ ‬الإيالة‮ (❊) ‬السابقة‮ ‬أدرج‮ ‬في‮ ‬سياق‮ ‬تاريخي‮ ‬قديم‮ ‬وعظيم‮ ‬يعود‮ ‬إلى‮ ‬القرون‮ ‬الوسطى،‮ ‬هو‮ ‬تاريخ‮ ‬الصراع‮ ‬العنيف‮ ‬بين‮ ‬الديانتين‮ ‬1‮”.(‬)

لقد تعددت وسائل هذا الصراع من طرف الأعداء الفرنسيين المشبّعين بالروح الصليبية للقضاء على الإسلام، أو لإبادة الشعب الجزائري (❊) المعتنق لهذا الدين القيم، ولذلك “كان الفرنسيون واثقين من أن العنصر الديني ضروري لفهم الماضي البعيد للجزائر وحاضرها، والمشاكل التي يواجهونها في القضاء على الثورات فيها، ولذا أعاروه أهمية قصوى (2)“، لأن “الأمر ليس بالهيّن في الجزائر، إن الحرب تدور بين حضارتين، ربما ليستا على نفس المستوى الاقتصادي والتقني والعسكري؛ لكن لهما نفس الحضور في الأنفس(3)“.

لم يقتصر الصليبيون الفرنسيون في حربهم الإبادية ضد الجزائريين على أسلحة الحديد والنار والأرض المحروقة فقط؛ ولكن استعملوا أيضا الحرب النفسية ضد الجزائريين ليقوضوا إرادتهم، وليوهنوا عزيمتهم فلا يقاومون الفرنسيين، وليفقدوهم حصانتهم المتمثلة في تمسكهم الشديد بالدين الإسلامي القويم، وحب الوطن، وهو ما سماه الكاتب الفرنسي غافاريل “الحميّة المزدوجة ،(4) التي دفعتهم إلى الجهاد العنيف الذي أنجاهم من الإبادة الشاملة.

لقد أمر الله – عز وجل – في كتابه الحكيم المؤمنين أن يعدّوا لأعدائهم ما استطاعوا من قوة، ولا مرية في أن رأس القوة هو الإيمان الصحيح، والاتحاد المتين، والوعي بالذات وبالعدوّ وأهدافه، والعمل على إفشال أهدافه الخسيسة ومخطاته الرخيصة مهما تكن الخسائر جسيمة والتضحيات‮ ‬عظيمة،‮ ‬إذ‮ ‬لا‮ ‬شيء‮ ‬أغلى‮ ‬من‮ ‬الإسلام،‮ ‬ولا‮ ‬شيء‮ ‬أثمن‮ ‬من‮ ‬الوطن‮..‬

كانت الصحافة من أخطر الوسائل التي استعملتها فرنسا الصليبية العنصرية لتدمير عقول الجزائريين وتحطيم نفسياتهم، ليسهل عليها تحقيق أهدافها الدنيئة، وأغراضها الحقيرة، فكانت أول صحيفة أصدرتها في الجزائر باللغة العربية “المبشر”، وذلك في سنة 1847، “لمقاصد سياسية استعمارية‮… ‬ثم‮ ‬لتخذل‮ ‬بها‮ ‬الروح‮ ‬الثورية‮ ‬المقاومة‮ ‬التي‮ ‬ما‮ ‬انكفّت‮ ‬تتقد‮ ‬بها‮ ‬قلوب‮ ‬المواطنين‮ ‬ضد‮ ‬عدوهم‮ ‬الصليبي‮ …(‬5)

أدرك الوطنيون الجزائريون خطر هذه الوسيلة في تضليل الشعب، والتلبيس عليه، وإشاعة الفواحش في صفوفه؛ كما أدركوا أهميتها في إيقاظ وعي الشعب، وتنبيهه إلى ما يراد به من سوء، وتعليمه المعلوم من الدين والواجب الوطني، ومما يدل على هذه الأهمية التي أولاها الوطنيون الجزائريون‮ ‬الصادقون‮ ‬ما‮ ‬كتبه‮ ‬أحد‮ ‬روادهم،‮ ‬وهو‮ ‬الشيخ‮ ‬المجاهد‮ ‬إبراهيم‮ ‬أبو‮ ‬اليقظان‮ (‬1888‮ ‬‭-‬‮ ‬1973‮):‬

إنّ‮ ‬الصحافة‮ ‬للشعوب‮ ‬حياة‮ ‮ ‬والشعب‮ ‬من‮ ‬غير‮ ‬اللسان‮ ‬موات

.

فهي‮ ‬اللسان‮ ‬المفصح‮ ‬الذّلق‮ ‬الذي‮ ‬ببيانه‮ ‬تتدارك‮ ‬الغايات

.

وهي‮ ‬الوسيلة‮ ‬للسعادة‮ ‬والهنا‮ ‬وإلى‮ ‬الفضائل‮ ‬والعلى‮ ‬مرقاة

.

الشعب‮ ‬طفل‮ ‬وهي‮ ‬والده‮ ‬يرى‮ ‬ ‬لحياته‮ ‬ما‮ ‬لا‮ ‬تراه‮ ‬رعاة

.

الشعب‮ ‬تلميذ‮ ‬وتلك‮ ‬مثقّف‮ ‬ ‮ ‬ومهذّب‮ ‬إذ‮ ‬تخلص‮ ‬النيّات‮ (‬6)‬

.

عقد‮ ‬الوطنيون‮ ‬الجزائريون‮ ‬الصادقون‮ ‬العزم‮ ‬على‮ ‬خوض‮ ‬معركة‮ ‬الصحافة‮ ‬لإعداد‮ ‬الشعب‮ ‬لمعركة‮ ‬السلاح‮ ‬عن‮ ‬بيّنة،‮ ‬وقد‮ ‬كانوا‮ ‬مدركين‮ ‬أنهم‮ ‬سيواجهون‮ ‬في‮ ‬هذه‮ ‬المعركة‮ ‬ثلاث‮ ‬عقبات‮ ‬كؤود،‮ ‬هنّ‮:‬

‮❊) ‬سيف‮ ‬السلطات‮ ‬الفرنسية‮ ‬المصلت‮ ‬على‮ ‬رقاب‮ ‬هذه‮ ‬الصحف،‮ ‬وعلى‮ ‬رقاب‮ ‬أصحابها‮..‬

‮❊) ‬المال‮ ‬المنعدم‮ ‬أو‮ ‬القليل‮ ‬نتيجة‮ ‬سياسة‮ ‬التفقير‮ ‬التي‮ ‬انتهجتها‮ ‬فرنسا‮ ‬الصليبية‮ ‬ضد‮ ‬الجزائريين‮ ‬حتى‮ ‬لا‮ ‬يفكروا‮ ‬إلا‮ ‬في‮ ‬رغيف‮ ‬الخبز‮..‬

❊) مشكلة الطبع، حيث كانت المطابع تابعة للسلطات الفرنسية، أو لفرنسيين أهواؤهم لدولتهم، ومصلحتهم جميعا أو أشتاتا هي في إبقاء حال الجزائريين على ما هي عليه؛ زيع في العقيدة، جهل بالدين واللغة والوطن، وانغماس في الفواحش، وإشاعة للرذائل، وتفريق للصف، وتشتيت للكلمة‮.. ‬ولذلك‮ ‬لا‮ ‬يمكن‮ ‬لهذه‮ ‬المطابع‮ ‬الفرنسية‮ ‬أن‮ ‬تطبع‮ ‬ما‮ ‬يوقظ‮ ‬الجزائريين،‮ ‬وينبههم،‮ ‬ويعلمهم‮ ‬حقائق‮ ‬دينهم،‮ ‬ويذكرهم‮ ‬بوطنهم‮ ‬وحقوقه‮ ‬عليهم،‮ ‬وواجبهم‮ ‬نحوه،‮ ‬ويعرفهم‮ ‬بأسلافهم‮ ‬وما‮ ‬قاموا‮ ‬به‮ ‬من‮ ‬أمجاد‮..‬

لم‮ ‬يكن‮ ‬أمام‮ ‬أولئك‮ ‬الوطنيين‮ ‬إلا‮ ‬السعي‮ ‬لتأسيس‮ ‬مطابع‮ ‬حرّة‮ ‬رغم‮ ‬ما‮ ‬ستواجههم‮ ‬به‮ ‬السلطات‮ ‬الفرنسية‮ ‬الباغية‮ ‬من‮ ‬تغريم،‮ ‬وتعطيل،‮ ‬وحجز‮ ‬للمطبوعات‮ ‬مما‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى‮ ‬الإفلاس‮ ‬الحتمي‮.‬

من‮ ‬أشهر‮ ‬المطابع‮ ‬الوطنية‮ ‬التي‮ ‬أسسها‮ ‬شرفاء‮ ‬الجزائر‮ ‬وأحرارها،‮ ‬ولقوا‮ ‬في‮ ‬سبيلها‮ ‬ما‮ ‬لا‮ ‬يعلمه‮ ‬إلا‮ ‬الله‮:‬

‮❊) “‬المطبعة‮ ‬الجزائرية‮ ‬الإسلامية‮” ‬للإمام‮ ‬عبد‮ ‬الحميد‮ ‬ابن‮ ‬باديس‮ ‬وبعض‮ ‬أصحابه‮..‬

) “المطبعة العربية” التي “ارتبطت باسم أبي اليقظان.. وأضحت جزءا لا يتجزأ من جهاده العظيم..(7) “،وقد أسسها في سنة 1931.

لقد‮ ‬قيض‮ ‬الله‮ ‬لهذه‮ ‬المطبعة‮ ‬المجاهدة‮ ‬أخانا‮ ‬الدكتور‮ ‬محمد‮ ‬ناصر،‮ ‬شفاه‮ ‬الله،‮ ‬فخصها‮ ‬برسالة‮ ‬قيمة‮ ‬تحمل‮ ‬عنوان‮: “‬المطبعة‮ ‬العربية‮: ‬معلم‮ ‬وطني‮ ‬مجهول‮”‬،‮ ‬وقد‮ ‬بلغ‮ ‬عدد‮ ‬صفحاتها‮ ‬مع‮ ‬الملاحق‮ ‬الهامة‮ ‬74‮ ‬صفحة‮.‬

لقد قامت هذه المطبعة المجاهدة بدور كبير – يذكر فيشكر – في طبع الكتاب العربي الوطني والجرائد الوطنية، ومنها جرائد الشيخ أبي اليقظان نفسه، والسلسلة الأولى من جريدة “البصائر” لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين قبل انتقالها إلى قسنطينة، وجريدة “المنار”، التي كان‮ ‬يشرف‮ ‬عليها‮ ‬محمود‮ ‬بوزوز،‮ ‬وعبد‮ ‬الحميد‮ ‬مهري،‮ ‬رحمهما‮ ‬الله‮.‬

ومن أهم الكتب التي طبعت في هذه المطبعة، فهي كتب الشيخ أحمد توفيق المدني، (كتاب الجزائر – محمد عثمان باشا – المسلمون في صقلية وجنوب إيطاليا – حنّبعل – جغرافية الجزائر)، كتب أبي اليقظان، وتاريخ الجزائر العام للشيخ عبد الرحمن الجيلالي، ومقاصد القرآن للأستاذ محمد‮ ‬الصالح‮ ‬الصديق،‮ ‬ومسرحية‮ ‬بلال‮ ‬للشاعر‮ ‬محمد‮ ‬العيد‮ ‬آل‮ ‬خليفة‮.. ‬كما‮ ‬كانت‮ ‬تطبع‮ ‬بعض‮ ‬المنشورات‮ ‬للهيآت‮ ‬الوطنية‮. (‬الكشافة‮ ‬الإسلامية‮ – ‬حزب‮ ‬الشعب‮ ‬الجزائري‮).‬

لقد كانت أعين السلطات الفرنسية مسلطة على المطبعة العربية، وعلى صاحبها، والعاملين فيها، والمترددين عليها، وقد تعرضت عدة مرات لترهيب السلطات الفرنسية وتفتيشها، وحجز بعض ما وجدته فيها. وقد عانت أزمات مالية حادة، زادها حدة تماطل بعض المشتركين في الجرائد في دفع‮ ‬ما‮ ‬بذمتهم،‮ ‬ولولا‮ ‬تلك‮ “‬الحمية‮ ‬المزدوجة‮” (‬الدين‮ ‬والوطن‮) ‬لما‮ ‬تحمل‮ ‬أبو‮ ‬اليقظان‮ ‬والوطنيون‮ ‬الصادقون‮ ‬كل‮ ‬ما‮ ‬تحملوه‮ ‬على‮ ‬يد‮ ‬فرنسا‮ ‬العنصرية‮ – ‬الصليبية‮.‬

إن‮ ‬هذه‮ ‬المطبعة‮ ‬العربية‮ ‬ومثيلاتها‮ ‬كانت‮ ‬في‮ ‬أثناء‮ ‬الجهاد‮ ‬السياسي‮ ‬تقوم‮ ‬بما‮ ‬قامت‮ ‬به‮ ‬المدافع‮ ‬في‮ ‬أثناء‮ ‬الجهاد‮ ‬المسلح‮.‬

إنه لولا هذه “المدافع الفكرية” من مساجد، ومدارس، وصحف، ومطابع لما استرجع الجزائريون وعيهم بذاتهم وهويتهم، ولما نفروا خفافا وثقالا لاستعادة هذه الهوية، ولاسترجاع هذه الأرض التي يخونها الآن بعض “أبنائها” لمصلحة العدو نفسه.

إن رصاصات هذه البنادق البسيطة التي أطلقها المجاهدون الجزائريون في مثل هذا اليوم منذ ثمانية وخمسين عاما لتنتهي خرافة “الجزائر الفرنسية” إنما كان أصلها هم أولئك الرجال والنساء الذين أبقوا الجمر مشتعلا، وفي تلك الوسائل البسيطة.. فرحم الله شهداءنا ومجاهدينا منذ‮ ‬5‮ ‬جويلية‮ ‬1830‮ ‬إلى‮ ‬5‮ ‬جويلية‮ ‬1962،‮ ‬ومنذ‮ ‬عهد‮ ‬شارل‮ ‬العاشر‮ ‬إلى‮ ‬عهد‮ ‬شارل‮ ‬دوغول‮.. ‬ولعنة‮ ‬الله‮ ‬على‮ ‬الحركى‮ ‬إلى‭ ‬يوم‮ ‬الدين‮..‬

.

هوامش:

‮❊) ‬الإيالة‮ ‬مصطلح‮ ‬إداري‮ ‬باللغة‮ ‬التركية‮ .. ‬والمقصود‮ ‬الجزائر‮.‬

1- ‬أوليفيي‮ ‬لوكور‮ ‬غرانميزون‮: ‬الاستعمار‮ ‬الابادة‮ – ‬ص‮ ‬109‮ – ‬110‮.‬

‮❊❊) ‬لقد‮ ‬دعا‮ ‬بعض‮ ‬الفرنسيين‮ ‬إلى‮ ‬الاقتداء‮ ‬بالانجليز‮ ‬في‮ ‬إبادتهم‮ ‬الهنود‮ ‬الحمر،‮ ‬ولذلك‮ ‬أطلق‮ ‬أولئك‮ ‬المجرمون‮ ‬الفرنسيون‮ ‬على‮ ‬أسلافنا‮ ‬مصطلح‮ “‬هنود‮ ‬الجزائر‮”. ‬أنظر‮ ‬المرجع‮ ‬السابق‮. ‬ص‮ ‬243‮.‬

2‬‭-‬‮ ‬3 ‬المرجع‮ ‬نفسه‮. ‬ص‮ ‬106‮.‬

4-‬المرجع‮ ‬نفسه‮ – ‬ص‮ ‬247‮.‬

5- ‬محمد‮ ‬ناصر‮:‬‭ ‬الصحف‮ ‬العربية‮ ‬الجزائرية‮ – ‬ص9‮.‬

6- ‬ديوان‮ ‬أبي‮ ‬اليقظان‮. ‬جمعية‮ ‬التراث‮. ‬ج1‮ ‬ص‮ ‬130‮ ‬‭-‬‮ ‬131‮.‬

7-‬محمد‮ ‬ناصر‮: ‬المطبعة‮ ‬العربية‮. ‬ص5‮.‬

مقالات ذات صلة