المغرب العـربي، ذلـــك الحُـلـْـم المُــؤجّــل!!
من مظاهر التخلف البارزة، في البلدان التي ما زالت تحيا على هامش الزمان، أن مشاريعها الكبرى لا تكاد تبلغ أهدافها أبدا في زمن منظور. ومشاريعُـنا المصيرية، كأحلامنا الوردية، يحلم بها الجميع، ولكن لا يستطيع أحد أن يتنبأ لها بيوم معلوم، ولا بأجل تقريبي، تتحقق فيه، حتى لو كان بعيدا. ونحن أبناء هذا الجناح الغربي من جسم الأمة، كأشقائنا في جناحها الشرقي، تلوح وتنضج الفكرة الحيوية، الرائعة، في ديارنا، فلا يختلف عليها اثنان.
ويتوقع ذو النظر الحصيف أن دوحتها الباسقة قد أينعت ثمارُها، ولم يبق إلا قطافـُها في حفل بهيج… ولكن تموت الأجيال التي قد سكن ذلك الحلم أيامَها ولياليَها، جيلا بعد جيل!.. ويتحوّل الحلم البديع إلى وهم مُـِريع.. ! وينسى الأحفاد رعـشة التـّـطلـُّع والتـشـّوُّف التي كانت تنتاب الآباء والأجداد وهم يحلـِّقون بخواطرهم في الآفاق الحُـبْـلى بالحدث السعيد. ويحل اليأس محل الرجاء في دنيا الأحفاد. وتتحول تباشير المولود المنتظر إلى أعراض حمل كاذب لا طائل من ورائه. وبينما يتلاشى الاهتمام بالمشروع الأصلي تزدهر المعارك، وتشتد الخصومات على مسمياته، وما ينبغي أن يعرف به من النعوت والصفات… وذاك شأن المغرب العربي، ووحدته المؤجلة!!..
عندما يطالعني عنوان في واحدة من صحفنا العديدة، يشير إلى معنى من معاني “الاتحاد المغاربي”، لا أفـَوِّت التوقف عنده أبدا؛ فقد عشت عمرا أحمل بين الضلوع ذلك الحلم / الوهم، ظنا مني أنني سأجد في ذلك العنوان لهجة المناضل المستنكر لـتآكل مشروع وحدته، المحرض على إخراجه من متاهات الدكاكين السياسية، وأقبية التوظيفات “الدمغجية”.. إلى أنوار واقع شعـب واحد، موزع بين أقـطار مخـتلفة، تـتـقاذفها أنانية الحيتان الكبيرة الـتـي لا تهمها إلا مصالحها، ولا تـُلزمها صداقة هذا أو ذاك، إلا بمقدار ما تـتيح لها أن تتغدى بهذا، وتتعشى بذاك… والحيتان الكبيرة لا يأكل بعضُها بعضا أبدا.. ولكنني أعود محبطا، مخيّب الأمل، من قراءة مضمون تلك العناوين، التي لا أجدها، في غالب حالاتها، مهتمة إلا بالجانب الشكلي الصرف، بين كاتب يرى أن أصدق التسميات لهذا الاتحاد الذي لم يتحد أبدا، هي “المغرب الإسلامي”، وآخر يرى أنه لا تصح تسميته لا بما يجعله عربيا، ولا بما يجعله إسلاميا، وأن أصدق عبارة له هي عبارة ”المغرب الكبير”.
ولكن فئة أخرى من المخالفين تعترض حتى على تسميته بـ”المغرب” أصلا، لأن هذه التسمية توحي بأنه، في هذه الحال، جزءٌ من شيء أكبر، له مشرق ومغرب، اسمه الوطن، أو العالم العربي. وهي لتجنب ذلك ترى ضرورة الاقتصار على نسبته إلى موقعه الجغرافي من القارة الإفريقية.
ومع يقيننا بأن الاختلاف على الصفات والتسميات، في واقعنا المغاربي الراهن، كما هو في واقعنا العربي الأوسع، لن يكون له من أثر واضح إلا في المزيد من المباعدة ما بين الشعوب المغاربية وبين تحقيق هدف رئيسي من أهداف مقاومتها للاستعمار، وغايةٍ كبرى من الغايات المسجلة في برامج كفاحها الوطني. مع ذلك، لابد لنا من القيام بتوضيح عدد من السياقات، أولها السياق السيادي، في الحقل الجغرافي. وثانيها السياق الدلالي، في الحقل اللغوي، الاصطلاحي. وثـالـثـها السـياق التاريخي، في الحقل السياسي والحضاري. وهذه السياقات مجتمعة هي التي رشحت تسمية ”المغرب العربي” للذيوع والانتشار، أكثر من غيرها. وأحسب أنها هي التي ستخلد وحدته إذا ما شاءت لها الأقدار أن تتم يوما ما.
أولا، عـن السياق السيادي، في الحقل الجغرافي.
كانت التسمية المشهورة للمغرب الحالي هي “مُـرّاكـش”. وبها كان يعرف في سائر الأقطار العربية. وربما يكون قد بقي، من رواد الثورة الجزائرية الأوائل، من لم يزل إلى اليوم، يسبقه لسانه إلى ذكر “مراكش”، وهو يعني المملكة المغربية. وقد سمعت الرئيس أحمد بن بلة، أكثر من مرة في وسائل الإعلام، وفي معرض الحديث عن فترة المقاومة الوطنية، في أقطار المغرب العربي، يتحـدث عـن “الجـزائـر وتـونس ومـراكـش”، وهو يقصد بالكلمة الأخـيـرة، كما هـو واضح، بلاد المغـرب حاليا. وهـو أمر طبـيـعي فـي منطق التسميات الحديثة.
فبقطع النظر عن العاصمة الليبية التي تحمل اسم المقاطعة التي تدل عليها، وعن العاصمة الموريطانية، فإن العواصم الثلاث هي التي منحت أسماءها للإقليم الجغرافي الذي هي عاصمة له. وليست “بلاد مراكـش” استثناء من ذلك. فإن التسمية الفرنسية “مَـرُوكْ”، المشتقة من التسمية الإسبانية “مُـرُّوكـو” هي النطق الإسباني المحرّف لـ “مُراكـُـش”، بحذف الشين. وكل الفرق أن مدينتي الجزائر وتونس بقيتا عاصمتين لإقليميهما، بينما مراكش خلفتها مدينة “الرباط” التي أقامها الموحدون عاصمة لهم، بعد القضاء على المرابطين، وعاصمتهم مراكش… وبما أن إقليم المغرب الأقصى كان قد عُـرف، عند الإسبان، وعند جيرانهم الأوروبيين، بـالاسم المحرف من العاصمة القديمة، فإن التسمية القديمة باللغة العربية لم تعد أيضا ملائمة. كما لو كان اسم الجزائر اليوم تلمسان أو أشير أو قسنطينة أو بجاية…
وقد شاع لمدة طويلة نسبيا، في المراحل التاريخية الأخيرة، إطلاق تسميات المغرب الأدنى، والمغرب الأوسط، والمغرب الأقصى، على البلدان الثلاثة. (ومنها نشأ مصطلح “المغارب” الذي ينسب إليه بقولهم “المغاربي” و”المغاربية”). ولكن لم تبق إلا العبارة الأخيرة، عنوانا للمملكة المغربية، ِردْحًا من الزمن. ومع بدايات الاستقلال، يبدو أن المغاربة لم يأنسوا بتسمية بلادهم مراكش، التي لا تعني شيئا. ولو أنها بقيت عاصمة للبلد لكان الأمر مختلفا. ولم يستسيغوا، من ناحية أخرى، صفة “الأقصى” لها، فقاموا بحذفها، وأبقوا تسمية “المغرب” عَلـَمًا لها… وقد قرأت، منذ أيام قليلة، في جريدة جزائرية مفرنسة، مقالة لمواطنة مغربية كتبت تستغرب أن يوصف الاتحاد المغاربي، بــ”اتحاد المغرب العربي”. وقالت، فيما بقي من ذلك المقال بذهني، إنها كانت تفضل تسمية “شمال إفريقيا”. وكم كنت أودّ أن أراها لأسألها ما الذي ستقترحه لتغيير تسمية بلدها ”المغرب”؟ والمهم أنه باختيار السلطات الرسمية لهذه التسمية بدأ الإشكال، وهو إشكال حقيقي! مرجعه إلى السياق الدلالي في الحقل اللغوي الاصطلاحي…
ثانيا، عن السياق الدلالي، في الحقل الاصطلاحي.
منذ أن اكـتملت الفتوحات الإسـلامـية في الأقاليم الممتدة غرب الإسكندرية إلى بلاد الأندلس، والعرب يطلقون على هذه المساحات الشاسعة “بلاد المغـرب”، وكل الذيـن يسكنونها هم عندهـم “مغاربة”، فلا يفرقون بين جزائري، وتونسي، ومراكشي. وتصديقا لهذا القول نذكـّر بذلك الحي الكبير في دمشق، حيث نزلت قوافل الجزائريين الذين التحقوا بالأمير عبد القادر بعد أن اخـتار الفيحاء مستقرا له. وهو إلى اليوم يسمّى “حي المغاربة”، مع أن كل من فيه جزائريون، إلا حالات استثنائية.. و”حي المغاربة” في القدس أيضا، مع أن عـدد سـكانه من الجزائريين أضعافُ من يـقـيم فيه من الجنسيات المغاربية الأخرى. ولقد تسبب في قدْر غير قليل من اللبس هذا الانزلاق في دلالة اللفظ الاصطلاحي من شموله لجناح كامل من الوطن الكبير، إلى قصر معناه على جزء قليل منه. وقـد سمعـتُ في عاصمـة مشرقية، أكثر من مرة، ناسا، من أهلها، يتحدثون عن المغرب العربي، وهــم إنـما كانوا يعـنون المملكة المغربية! بالذات، وهذا شاهد على مبلغ الالتباس!!
ولسائل أن يتساءل، وهو مُحِـقّ في سؤاله، لماذا نـُضطر إلى وصف أرض “المغرب” بالعربي، كلما أردنا أن نتحدث عن “المغرب الكبير”، ولا نكون مضطرين لفعل ذلك عندما نذكر “المشرق”، ونحن نقصد دولا كثيرة متباعدة. والجواب في غاية البساطة، وهو أنه لا توجد هناك دولة اسمها الرسمي هو “المملكة، أو الجمهورية المشرقية” فحين نذكر المشرق فالذهن ينصرف مباشرة إلى الجناح الواقع اصطلاحا في الجانب الشرقي للوطن العربي، ولو كانت توجد دولة، بتلك التسمية، لوقع فيها نظير ذلك من اللبس..على أن هناك سياقا ثالثا يشفع لإضافة صفة “العربي”..
ثـالـثـا، عـن السـياق التاريخي، في الحقل السياسي والحضاري.
كانت السلطات الفرنسية تصف كل واحد من أقطار المغرب الواقع تحت سلطتها بأنه فرنسي. ولم يكن يَضِـيرُ فرنسا أن توصف تلك الأقطار بأنها “بربرية” أو “إسلامية”. فبالنسبة للوصف الأول، كانت هي نفسها تروّج لـه عن طريق مؤرخيها.. وكان المهم عندها هو أن نـتنصَّل من وعائنا الحضاري، العربي ـ الإسلامي.. وأما بالنسبة لصفة الإسلام فهي حقا فعلت كل ما كان باستطاعتها فعـلـُه لتهميشه، وتقزيمه، وإفقار كل ما يتعلق بجوانب الدراسات المعمقة والبحث المبدع فيه، ولكنها أبقت جانبه الشكلي، فجنسية الجزائريين كلهم، هي بصفة رسمية، في بطائق هوياتهم، “فرنسي مسلم”، ولكنها لا تقـرّ لهم بالانتماء “العربي الإسلامي”، لذلك كانت حركات التحرر الوطني في كل الأقطار المغاربية تجتهد في كل مناسبة لإبراز ذلك الانتماء، لأنه هو القادر على محاربة الكيان البديل الذي تريد فرنسا فرضه بكل الوسائل.
وكان من الهيئات المغاربية التي رسمت، وأشاعت هذه التسمية هو “مؤتمر المغرب العربي”، المنعقد في القاهرة في 15 فبراير عام .1947 وهو الذي أسفر عن تأسيس “مكتب المغرب العربي” في القاهرة، ذلك الذي عمل فيه، ونشطه، كبار قادة الكفاح الوطني، في الأقطار المغاربية. وقد قام بأدوار هامة في تاريخ النضال المغاربي. ولم نرَ أحدا، من الشخصيات الوطنية، وقتئذ، يجد ما يقوله اعتراضا على هذه التسمية. ولنتأمل الأشباه والنظائر؛ إن جزءًا عظيما من المعمورة في العالم يسمى “أمريكا اللاتينية”، مع أن اللاتـين، لم تطأ أقدامهم، في أي يوم، ذرة من ترابها، ولا خطر لهم حتى وجودها على بال! ومع ذلك لم نجد في تلك البلاد ما يوحي بأن أهلها قلقون من تلك التسمية… فمن الذي برمج البعـض منا، هنا أو هناك، على التنكر لهويةٍ كان الصراع على كل شيء، إلا على ثوابتها الراسخة؟