-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أفنت 22 سنة من عمرها في ترميم "الحجار"

المهندسة ليندة.. أو الابتسامة التي روّضت إمبراطور الحديد!

بورتري: إيمان كيموش
  • 5927
  • 0
المهندسة ليندة.. أو الابتسامة التي روّضت إمبراطور الحديد!
ح م

بعيدا عن صالونات التجميل والحلاقة، والجلوس لساعات داخل مكتب مكيّف، أو التنزه في الحدائق العمومية كمثيلاتها من الجنس اللطيف، وفي زمن كثر الحديث فيه عن تصنيفات “المهن الشاقة”، تحوّلت قصة المهندسة ليندة يوبي إلى حديث العام والخاص بمركب “الحجار”، فهذه السيدة اختارت أن تكون ملكة “الحديد”، ولما لا مرغريت تاتشر الجزائر، تشتغل تحت حرارة 1600 درجة، وتقضي ساعات طويلة بالقرب من بوابة الفرن العالي بمركب الحجار الذي منحته 22 سنة من عمرها، قضتها بين وحدات إنتاج الحديد وأقسام الفولاذ المنصهر. فقصة المهندسة ليندة، ليست خرافية أو مستوحاة من كتب التاريخ الأسطورية، وإنما هي شابة جزائرية أصيلة، رفعت التحدي، فكانت رقما فاعلا في مركب الحجار بعنابة.

 

مهندسة ترأس 12 قسما لترميم الحجار.. تحت ركام 1600 درجة!

 بملامح جادة وعزيمة قوية مدججة بالإرادة والتحدي، وعيون تتفاءل بمستقبل مشرق، تستيقظ ليندة، ابنة عنابة والمولودة سنة 1968، في حدود السادسة صباحا، لترتشف فنجان قهوة قبل التوجه إلى الحجار، “العملاق الحديدي” الذي يبعد ببضعة كيلومترات عن منزلها، وتستذكر في كل يوم، كيف وطأت قدماها المركب أول مرة كمهندسة، كان ذلك سنة 1994، حسب ليندة، التي تشغل اليوم منصب مديرة وحدة الصيانة، والمشرف الأول على كافة الآلات والتجهيزات التي تسيّر المركب: “كنت في ريعان شبابي، عندما تخرجت من جامعة برج باجي مختار تخصص هندسة أوتوماتيكية، وولجت إلى عالم الشغل، وأي عالم، المهن الشاقة..دخلت الحجار، بقلب يخفق ويدين ترتجفان، خطوت أول خطوة لي وأنا في سن 28، ولم أكن لأوفّق لولا دعم المرحوم والدي، الذي لم يبخل عليّ بالنصائح والتوجيهات، فهو أستاذ احترف مهنة التعليم، وأدرك قيمة العمل وأهميته في حياة المرأة، لذلك لم يكن ليبالي بتعليقات الناس والجيران، الذين يلمحون امرأة شابة تعود للبيت بعد منتصف الليل في تسعينيات القرن الماضي”.

تسترجع ليندة ذكريات الطفولة، فتقول “كنت أشاهد الحجار وأنا طفلة صغيرة أتمشّى بطرقات سيدي عمار رفقة والدي، وهنالك حلمت بأن أشتغل في هذا المصنع ذات يوم، وزادت عزيمتي بعد دخولي الثانوية، حيث كنت أدرس شعبة رياضيات، وبعد نيلي تأشيرة البكالوريا، اقتنعت بضرورة أن أكون مهندسة ترتدي البدلة، وتصهر الحديد إلى جانب رجال هذا البلد العظيم”.

تصمت قليلاً لتواصل: “كسبت عديد المعارك، خلال مسيرتي المهنية، فعندما دخلت أول مرة وحدة الصيانة، كنت مهندسة صغيرة إلى جانب مجموعة من الزميلات، شكلنا قسما نسويا بامتياز، إلا أن عددهن تقلص مع مرور الأيام، فالناس هنا ينظرون للحجار على أنه مكان عمل للرجل وليس للمرأة… بعد أشهر وجدت نفسي بمفردي إلى جانب مجموعة من الرجال، لم يتقبلني البعض والكثيرون أداروا ظهرهم لي، إلا أن الزمن كان كافيا لإثبات أن للمرأة دور، وبإمكانها أن تكون ناجحة”، تسترسل ليندة: “..تمت ترقيتي سنة 1997 إلى مسؤولة فرعية للقسم، وهنا تقلدت أول منصب مهم بالحجار، إلى أن أصبحت اليوم مديرة وحدة الصيانة، والمسؤولة الأولى عن 12 مهندسا، كلهم رجال، وكل واحد يسيّر قسمه الخاص..”. 

 

20 سنة بين كابوس الخوصصة وفرحة التأميم

تعود ابنة عنابة بعشرات السنوات للوراء، لتروي قصتها مع واحدة من أهم مدن الشرق الجزائري، والولاية التي تنام على ثالث الموانئ الجزائرية بعد العاصمة ووهران من حيث حجم النشاط الاقتصادي، لتقول إن مركب الحجار يبقى أكبر معلم اقتصادي بالمنطقة هناك، فلا يزال قدماء سكان سيدي عمار، يتذكرون وضع حجر أساسه من طرف أول رئيس للجزائر المستقلة أحمد بن بلة سنة 1964، ليواصل تشييده الرئيس الراحل هواري بومدين، فالرجل دشّن الفرن العالي سنة 1969، ليحقق الحجار أعلى نسبة من الإنتاج في تاريخه عام 1985 بطاقة إنتاجية بلغت آنذاك سقف 1.5 مليون طن من الفولاذ السائل، وبدأ بعدها وتحديدا تزامنا مع الأزمة الاقتصادية لسنة 1986 سيناريو مسلسل تخبّط الحجار، ومرحلة اللااستقرار التي التهمت المليارات من أموال الخزينة العمومية، وتخلّي المركب عن الآلاف من العمال، ما جعله يعيش تجربة صعبة للخوصصة مع الهندي “أرسيلور ميتال”، الذي استحوذ على معظم أسهمه طيلة سنوات، وتؤكد “ليندة” أن هذا الوضع أفرز معطيات لم تكن الحكومة راضية عنها، وهو ما دفع بها للمسارعة لاسترجاعه بداية من 2015، ليعلنها صراحة الوزير الأول عبد المالك سلال خلال زيارة شهر مارس المنصرم لولاية عنابة، فالحكومة دفعت أزيد من مليار دولار، ولن تدفع المزيد، ولكن التحدي، حسب ليندة، هو عودة الحجار إلى عصره الذهبي: “إذا كان البترول قد جفّ ..، فالحجار سيبقى شامخا شموخ لالة بونة وشموخ الجزائر ككل”.

 

حمينا أنفسنا وآلاتنا من الدم ..وسنواصل النضال لإعادة الحجار لعصره الذهبي

وتروي ليندة تجربتها خلال حقبة الدم والعشرية السوداء، فتقول إن ولوجها المركب تزامن مع عمق الأزمة الوطنية، ولم يكن مطلوبا منها العمل وترميم الآلات فقط، وإنما أيضا حماية التجهيزات: “كان كل واحد منا يحمي نفسه ويحمي الآلة التي يشتغل عليها، حاولنا الابتعاد عن الأضواء حتى لا نلفت نظر أولئك الدمويين، ورغم صعوبة الوضع، كنا نمضي ليالي طويلة بمختلف وحدات المركب ولا نغادره إلا في حدود الخامسة صباحا، لنعود في السابعة، أي بعد ساعتين”، “فالمسؤولون كانوا يطلبون العمل وحماية الآلة والتزام الصمت، ولم تكن لنا الفرصة للحديث عن حقوق العمال أو حتى لنطلب المقابل، كنا واعين بخطورة الوضع وما تتطلبه المرحلة”.

وتجزم ليندة أن أصعب ما مرّ به العمال آنذاك، هو المهام التي كانوا يكلفون بها خارج الولايات: “لن أنسى يوم تم إيفادي إلى جيجل لتفعيل أحد الآلات، قطعت الوديان والغابات، وأنا أدرك أنها المنطقة الأكثر خطورة، قصدت غرداية أيضا لتفعيل أحد المشاريع هناك، وكانت عائلتي متخوفة جدا على وضعي، لكني تحملت المسؤولية كاملة، واليوم لست نادمة ولو تطلب الأمر أن أعيد ذلك لن أتردد، فالظرف الاقتصادي كان صعبا وخزينة بلادي كانت بحاجة لكل سنتيم جديد ينعشها”.

وتعتبر ليندة أن مرحلة العشرية السوداء، كانت أكثر المراحل صعوبة في حياة الحجار، فالأمن لم يكن متوفرا والاقتصاد لم يكن بخير، تقول “كانت فترة عويصة وتتطلب التضحيات الجسام للاستمرار، لكنها الأيام التي استطعنا فيها أن نتعلم أكثر، أن نكتسب الخبرة من “سيدار”، أن نواجه قدرنا ونثبت أن الصناعة الجزائرية ورغم ما تمر به من أزمات قادرة على الاستمرار، فالجميع ناضل لعدم إشهار الحجار إفلاسه، والتحدي كان تفعيل الفرن العالي”.

 

هذه حكايتي مع الإضرابات والخوصصة والسنوات العجاف والتأميم

يقال إن الحجار مركز الاحتجاجات والإضرابات ودائما في حالة غليان، لكن هدفنا اليوم ـ تقول ليندة ـ أن نعيد صناعة الحديد والصلب في الجزائر إلى الواجهة، فالهنود وأرسيلور ميتال لصاحبه الملياردير العالمي لاكشمي ميتال، ورغم كل الخبرة التي يتمتعون بها، لم يجلبوا الجديد لـ5000 عامل، سيدار كانت مدرستنا الحقيقية، والاجتهاد والعرق كان فقط للجزائريين، كما أنهم لم يضخوا الأموال التي كنا ننتظر أن تخرجنا من الأزمة، واليوم أستطيع أن أقول إننا جميعا هنا بعنابة سعيدون بقرار التأميم.

وتعتبر ليندة أن الجميع كانوا ينتظرون عندما قرّرت الحكومة خوصصة الحجار أن يدخل الملياردير ميتال عليهم بيد تحمل المال وأخرى التكنولوجيا والتكوين، إلا أن السنوات الماضية أثبتت أن لاكاشمي اكتفى بجلب منهجية جديدة في العمل، ورغم ما تحمله من تنظيم، إلا أنها لم تكن قادرة على تحقيق الاستتباب والاستقرار بالمركب، الذي ما فتئ يلتهم مليارات أخرى من خزينة الدولة، بدل أن يدعمها بأرباح سنوية، ليتحول الحجار في عصر الهندي “أرسيلور ميتال” إلى عبء إضافي على الخزينة، وبات حديث العام والخاص بعد أن التهم مليار دولار من المساعدات.

وعادت المهندسة ليندة لتروي قصة أصعب يوم في تاريخها بالحجار، كان ذلك سنة 1997 عندما زار رئيس الحكومة الأسبق أحمد أويحيى الورشات، وأمر بضرورة المسارعة لصيانة الآلات والتجهيزات لإعادة إطلاق الحجار الذي كان في عطلة عن العمل، وتخريج الفولاذ من المصنع بداية من 24 فيفري، أي تزامنا وذكرى تأميم المحروقات، تقول ليندة إن التحدي كان صعبا “اشتغلنا في الشهر الأخير ليل نهار، كان أويحيى في كل مرة يقوم بزيارة ميدانية سرية للورشات للاطلاع على الوضع، بتنا ليالي طويلة هناك وانعزلنا عن بيوتنا وأهالينا، ولكن استطعنا في النهاية أن ننجح في إعادة هذا العملاق للتصنيع، وبالتاريخ الذي اتفقنا عليه، فصيانة وترميم الفرن العالي وكافة التجهيزات، استغرقت قرابة السنة، ليحل وفد حكومي لتدشين عودة الحجار، في ذكرى تأميم بومدين للمحروقات”، عودة الحجار سنة 1997 حملت في طياتها الكثير من الرسائل، لأولئك الذين قالوا إن الجزائر ليست بخير، وأن الخزائن فارغة والاقتصاد منهار، وحملت الكثير من الأمل وجعلت العمال يؤمنون بأن هذا الصرح العملاق الذي دشنه بومدين في يوم ما لن ينهار، فكيف لمن استطاع مواجهة الإرهاب وتحدياته في الماضي وبعبع الاستدانة ومخاوف صندوق النقد الدولي، أن يعجز اليوم عن مواجهة قدره بقلب حديدي، أقوى من الفولاذ الذي يذوّبه الفرن العالي.

 

لا حديث عن التقاعد المسبق.. فلا عطاء قبل الخمسين

بالرغم من أنها رفضت التعليق على أولئك الجالسين خلف المكاتب والمكيّفات، والمطالبين بتمكينهم من الاستفادة من التقاعد المسبق، رفضت الخوض في الملف الذي يعتبره الكثير من العمال مكسبا من ذهب، إلا أنها ردت بعبارة واحدة “في نظري أن العامل يصل قمة عطائه في سن الخمسين، فهنا تجتمع الخبرة والدراية بالمجال الذي يشتغل فيه، ووقتئذ فقط يمكنه تقديم الكثير”، واعترفت ليندة بأنها اليوم لم تعد تلك الفتاة الشابة التي لا تخرج من الحجار قبل الثالثة بعد منتصف الليل، لتعود في حدود السابعة صباحا”، إلا أن ذلك لا يمنع من أن تقتسم الخبرة التي اكتسبتها بعد 22 سنة من العمل مع الزملاء والوافدين الجدد على هذا العملاق الاقتصادي، الذي يحتوي من كافة أبناء الوطن، مصرحة “لا أريد أن يساء فهمي ولكن ليست كل المهن تستحق تصنيف المهنة الشاقة، والتقاعد المسبق، فنحن هنا نشتغل تحت حرارة عالية ونغرق في أكوام الحديد والغبار، بل إن الكثيرات من النساء غادرن الحجار، لعدم قدرتهن على الاستمرار مع الجنس الخشن وعدد الموظفات يتناقص يوما بعد الآخر”.

 تضيف ليندة: “الوضع هنا لم يعد محفزا بشكل كبير للنساء، فعددهن كان قبل 5 سنوات، لا يقلّ عن 500 امرأة من إجمالي 5000 عامل، معظمهن تشتغلن بالورشات، وتناقص نسبيا ليبلغ اليوم 213 امرأة، أي انهار إلى أكثر من النصف، ومعظمهن استفدن من التقاعد المسبق، وعجزن عن البقاء في الحجار في ظل ظروف العمل الشاقة، خاصة أولئك المتزوجات..، وأعتقد أنه بنهاية السنة الجارية سيتضاءل العدد بشكل أكبر، فكلهن هنا يبحثن عن التقاعد المسبق، ويركضن وراءه قبل دخول القانون الجديد حيز التنفيذ”. 

 

الحجار خليفة سوناطراك.. وهذه نصيحتي للجيل الصاعد

تعتبر ليندة يوبي أن زمن الاعتماد على الريع البترولي قد ولى، وأن التحدي الجديد اليوم هو الصناعة، وتجزم أن مستوى إنتاج أي دولة هو معيار يقاس بها مدى تقدمها، ولذلك تقول إن كل الأصابع اليوم موجهة للحجار وغيره، فهذا الصرح الاقتصادي بإمكانه استغلال حديد غار جبيلات والتصدير للخارج والتنسيق مع مصنع بلارة بالشراكة مع القطريين في جيجل، وتؤكد المتحدثة، أن الصناعة ليست فقط بوابة الخروج من أزمة النفط الخانقة، وإنما أيضا الفلاحة، فالجزائر حسبها تمتلك ثروات جمة وبإمكانها بسهولة تحويل النقمة إلى النعمة، فقط يجب العمل والإخلاص والتفاني وحب الوطن، وأن لا تغادر الابتسامة، شفاهنا”، وتختم ليندة حديثها بكلام توجهه لجيل الغد والوافدين الجدد على الحجار، قائلة “كلما أعطينا هذا المركب أعطانا أكثر، لن أنكر أني استفدت من دورات تكوينية في الخارج وفي الداخل، ترقيت إلى مناصب عليا وحققت كل طموحاتي المهنية، فقط يكفيكم التفاني في العمل”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!