المُحرَّم على أمتنا في شهر مُحرَّم
كان “أسلافنا” الجاهليون العرب، يعظّمون الأشهر الحرم، أيما تعظيم، فإذا هلّ هلال هذه الأشهر، أمسكوا ألسنتهم عن الجهر بالفحشاء، وأغمدوا سيوفهم بكفها عن سفك الدماء، ونأوا بأنفسهم عن إثارة الشحناء والبغضاء، فإذا التقى أحدهم بقاتل أبيه، أو أخيه، أو أحد ذويه، أدار وجهه عنه، فلا يأخذ بثأر القتيل من القاتل، تعظيماً للأشهر الحرم، وتقديساً للبيت الحرام؛ والأشهر الحرم هي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرّم.
قداسة محرم، هو أنه استهلالٌ للعام الجديد، وأنه خاتمة الأشهر المقدسة، وأنه تتويج لأكبر عمل في حياة المسلم، وهو الحج الأكبر كما سماه القرآن.
من هنا جاء التأكيد على السلم في هذه الأشهر _فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ_[سورة البقرة، الآية 197]، أي الطهارة الشاملة للمسلم، بأن يسلم الجميع من لسانه ويده، وحتى الحيوان، يمنع قتله صيداً، _يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ_[سورة المائدة، الآية 95].
ومن قدسية هذه الأزمنة، أن المسلم وغير المسلم، يجد فيها الأمان على نفسه وعلى ماله، بل ونجد الحماية الكاملة، والأمن الشامل _وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ_[سورة التوبة، الآية 6]، إنه قرآن يتلى، يحصّننا ضد العدوان والروح العدوانية _فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ_[سورة التوبة، الآية 2]، أي أن المشرك يسيح في الأرض طيلة الأشهر الحرم، لا يخاف إلا الذئبَ على غنمه..
إن الإسلام، هذا الدين الواقعي، قد جاء لتعزيز بعض القيم النبيلة في الجاهلية، ومنها حفظ العهود، واحترام الحدود، وإشاعة السلام في الوجود… ولكن ماذا فعل السلف، وقد التزموا الإسلام دينا، وأحكامه قانونا؟
إنه ليؤلمنا، أن نرى، أن أمتنا العربية الإسلامية، هي أبعد الناس عن خلق الإسلام وحتى عن قيم الجاهلية النبيلة، التي كانت سائدة قبل الإسلام.
فأمتنا، هي التي تتصادم في الحج إلى حد القتل، من أجل أداء النُّسك. فأي مذهب هذا الذي يبيح لأتباعه، أن يقدم على القتل من أجل أداء شعيرة دينية، أيا كانت هذه الشعيرة؟ وإن ما حدث في حج هذه السنة، لأسوأ مثل عن الإسلام والمسلمين.
وفي أمتنا من يختطف الأطفال البرءاء ليمارس عليهم أسوأ الأفعال، ولينكل بهم أسوأ النكال، ويغتالهم أسوأ اغتيال.
وعندما تحدث هذه الجرائم من عدو غاشم كما هو الحال من العدو الصهيوني، الذي يغتال براءة الأطفال الرضع، نستنكر هذا ونعدّه من جرائم الإنسانية، بالرغم من أن الطفل الفلسطيني، قد يُغتال، وفي يده حجارة، وهي أقوى ما يملك للدفاع عن أرضه.. لكن أن يُختطف الأطفال ممن ينتمون إلى بني جلدتنا، ويزعمون العمل بعقيدتنا، فيروعون أسرتنا، ويشوّهون ملّتنا، فإن ذلك ما لا نجد له تفسيراً أو تبريراً.
إن الأنكى، أن تتقاتل شعوبٌ إسلامية فيما بينها، فيحارب بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، وما أولئك بالمؤمنين.
وليث هؤلاء المتوحشين اتعظوا بقيم الإسلام، في سموّها الرباني، وعلوّها الإنساني، الذي يبعدنا عن كل عمل شيطاني؟
إن الأنكى، أن تتقاتل شعوبٌ إسلامية فيما بينها، فيحارب بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، ويكفر بعضهم بعضاً، وما أولئك بالمؤمنين..
كيف نبرّر إنسانياً، وإسلامياً، ووطنياً، ما يحدث في ليبيا؟ فمن يقتل من؟ ومن يلعن من؟ ومن يكفّر من؟ أليسوا جميعاً على دين واحد؟ وعلى مذهب واحد؟ وكانوا جميعاً ينشدون الخلاص من حكم الفرد الواحد؟
وما يقال في ليبيا، ينطبق على اليمن، وعلى سوريا، وعلى العراق، وعلى أفغانستان، وعلى أجزاء كثيرة من وطننا وأمتنا، فأين هي النخوة العربية الجاهلية في شهامتها وسماحتها؟
وأين هي الحكمة الإسلامية، في عظمتها وطيبتها، وقدسيتها؟
إن مأساة أمتنا، أنها صارت مذبذبة في انتمائها، ودعيّة في اقتدائها، وضالة في اهتدائها، فلا هي بالقيم الجاهلية النبيلة اقتدت، ولا هي بالسنن الإسلامية الجليلة تحصنت، فطار منها كل شيء، وفقدت كل شيء. وليث أمتنا نزَّلت تقديس الجاهليين للأشهر الحرم في سلوكها، فكفت عن القتل في هذه الأيام، وعفت عن سفك الدماء في شهر محرّم الحرام؟ _فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ_[سورة الجاثية، الآية 6].
كيف نبرّر إنسانياً، وإسلامياً، ووطنياً، ما يحدث في ليبيا؟ فمن يقتل من؟ ومن يلعن من؟ ومن يكفّر من؟ أليسوا جميعاً على دين واحد؟ وعلى مذهب واحد؟
كنا نأمل، أن تتحول كل أيام الشهور في العام، إلى أيام حُرم، يحرم فيها القتل، والختل، والسحل، فتهب على أمتنا ريح الحب، والأمن، والأمان، والإيمان.
وطالما دعونا الله، أن يهدي حكامنا، وقادتنا، وعلماءنا، وزعماءنا، بأن يتلاقوا على كلمة سواء، هي الحق، والعدل، والحرية، والأخوة، والتسامح، والمحبة، حتى يشعر المواطن، شاباً أو كهلاً، رجلاً أو امرأة، بجو الطمأنينة التي تكره العنف، ومناخ السلام الذي ينبذ الحرب، وطقس المحبة الذي يرفض الكراهية والحقد، فينعم الجميع في كنف الوئام والسلام.
لقد خاب أملنا، عندما صار دعاؤنا في ضلال، وأملنا في خبال وخيال، وأصبح العكس هو السائد: مزيد من العنف، ومضاعفة في القتل، وتنافس على السلاح والحرب، ومبالغة في الفساد والإفساد.
أكل ذلك بما كسبت أيدينا؟ وإنا من الصالحون ومنا المفسدون، ألأنّ الفساد هو الذي طغى وساد؟ فما جدوى عبادة العباد؟
إننا بالرغم من كل ما حدث ويحدث، نبقى متشبّثين ببصيص الأمل، وهو أن الصلاح سيهزم الفساد، وأن الخير سينتصر على الشر، وأن الحق سيسود على الظلم، مهما كثر المفسدون، وتضاعف عدد الأشرار، وطغى أمر الظالمين.
إن للظلم، والفساد، والشرّ ساعة، ولكن الحق إلى قيام الساعة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.