-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المُربي عبد السّلام مختار.. نُبل الشمائل وعِظم الخصائل

المُربي عبد السّلام مختار.. نُبل الشمائل وعِظم الخصائل

نَبُلت شمائل المربي الفقيد عبد السّلام مختار وحُمدت خصائله، وصعد بها إلى ذروات الارتقاء حتى شُهر صيته وصار من بين الرجال الأثيرين والممدوحين في حقل التربية والتعليم. واحتل مكانة مرموقة في صفوف ذوي الذكر الحسن بين أفراد مجتمعه القريب، فلا ينساب اسمه على لسان، ولو انسيابا عابرا، إلا وكان مردوفا بعبارات الثناء والمدح. ولذا كان موته الزؤام مفجعا ومؤلما ودامغا لقلوب أهله وخلانه وأصدقائه وزملائه، لأنهم أحسوا أن الإصابة بليغة، وأن النزف غزير، وأن التئام الجرح وجبر الكسر قد يتطلَّبان ردحا زمنيا طويلا.   

في المقبرة، صعُب علينا أن نقف لتوديعه إلى مرقده الأخير بعد رحلته العمرية التي وفِّق في تأثيثها بأحسن الأعمال وأطيبها، وتزود فيها من دنياه لأخراه زادا نقيا وفيرا ومدخرا ليوم الحساب الأعظم.

وما صعُب علينا أكثر، هو أن الكلمات التي تليق به، وتناسب مقامه، ويحق أن تقال عنه في لحظة الوداع التي تجرَّعنا فيها مرارة فراقه المفاجئ، والتي نريد أن تشبه طيبة نفسه الأبية وجمال روحه البهية، لم تعد، للأسف، كلمات مطيعة ومنقادة، فقد نكصت على أعقابها، وولت أدبارها، ولم ترغب في المجيء والامتثال والاستمالة. وإنما أمست تنفر وتفرُّ منا، ولا تقبل الاستمطار، ولا تريد أن تنزل ولو طلًّا أو رذاذا. فهل فراق الأحبة الأخيار أمثاله يغيّر من طبائع وسلوك المفردات والألفاظ، ويقلل من منسوب حضورها ويخفّض سرعة تدفقها ويخنقها قبل أن تولد على الألسن، أو تصب على الورق حتى يقرأها القراء أو يسمعها السامعون؟

لقد استعجل عبد السلام الرحيل، وبارحنا بلا تأن أو توأدة، ومن غير تمهل. ورضي أن يتوارى عن أنظارنا للمرة الأخيرة بسرعة لم نكن نتصوّرها، ولم يمنحنا حتى فرصة تبادل السلام الأخير. ونخاله ذهب للقاء المولى، تبارك وتعالى، ولسان حاله يردد معتذرا الآية القرآنية اللطيفة: (وعجلت إليك ربِّ لترضى). فهل اقتنع أنه أتم كل واجباته الكبرى، وجاء على نهاياتها الواحد بعد الآخر، ونفض أثر غبارها من يديه ورمى وشبها من بين أصابعه؟.

نعتقد وكأنه شعر أن حياته لم يعد لها من معنى أو مدلول خارج أسوار التربية، وأنه لم يرض العيش بعيدا عن أحواضها النقية وفي انقطاع عن أجواء المدارس وضوضاء وجلبة الأقسام. وعزّ عليه ترك تقويم الدروس بإيجابياتها وسلبياتها، والتخلي عن الحوار البيداغوجي الممتع والشيق الذي لا ينتهي، والنقاش التربوي المتجدد على الدّوام. ورأى أن تمتعه بأقل من عشرين يوما من فترة تقاعده كانت كافية حتى يستريح من عناء أربعين سنة قضاها في خدمة المدرسة الوطنية في تفان وحذاقة وإخلاص؛ لأنه آمن أن المدرسة هي ركيزة الوطن الأولى، وهي عمود خيمته التي يجهز فيها الرجال والنساء لخوض غمار ومعمعان الحياة في غدهم، وهي المصنع الأوحد الذي يشيد فيه مستقبل الوطن وترسم آمال الأجيال.

أم هل استعجل الرحيل؛ لأن قلبه الرهيف ورقيق الإحساس طار شوقا للنظر إلى وجه والدته الكريمة التي سبقته في السير إلى عفو ربها الرحمن الرحيم منذ أشهر قليلة، وأصر على ضرورة حزم أمتعته والالتحاق بها وعيناه لم تتوقفا بعد عن سكب الدموع التي لا تكفكف حزنا على فراقها؟. فلعل حنينه إليها الذي لا يقاوم وتشوّقه إلى حضنها الدافئ دعياه ليسعد بالنوم في جوارها، وينعم بسماع عذوبة أحاديثها كما كان يفعل في دنياه وهو طفل طري العود وناقص التجربة.

لم تخسر التربية وحدها المربي عبد السلام، وإنما غبنت فيك الأخوّة والصداقة، وانجرح فيه الحضور الاجتماعي الفاعل الذي كان أحد فرسانه الكبار في الخفاء. ولهذا السبب، كثر باكوه بدمعات حارقة حرّى، وكأن قطراتها تنسلّ في سيلانها من شرايين قلوبهم ولا تسقط من مدامعهم.

لقد فقدت فيه التربية مربِّيا ملتزما ومتشبعا بالقيم التربوية العليا سواء في الأقسام مع المتعلمين أو أثناء توليه منصب الإشراف التربوي مفتشا في مادة اللغة العربية التي خدمتها خدمة المحسنين الكبار من غير خذلان أو تراجع. وكان واحدا من جنودها الباسلين والغيارى في الميدان، وأحد حماتها المغاوير الذائدين في جسارة الأشداء عن ربوعها وحماها. ولن يكون جزاء هذه الإحسان العظيم في خدمة اللغة العربية العزيزة إلا إحسانا مضاعفا وزنا وكيلة، تقديرا وحسابا. والبشرى بجميل الجزاء ووفرته قادمة إلى يديه.

لا تُشقّ عرى الصداقة، ولا ينهدّ بنيانها إلا بفقدان صديق عزيز على القلب مثل الأخ عبد السلام. فكم كان وفيا ودودا مع أصدقائه، وخدوما لهم بأضعاف ما يستطيع وما يتحمل أحيانا. وكم كان وقَّافا على حماية جنب كل واحد منهم، وإنزاله منزلته التي يستحقها؛ فقد كان يصون ودّ كل صديق، ويحفظ عهده، ويرعى وعده، ويسأل عنه أو يزوره إن افتقدته أو غاب عن عينيه، وكان يفرح لما يفرحه، ويتأثر لما يصيبه. والحقيقة، إن الصداقة لما تنسج خيوطها مع الأخ عبد السلام تزرع الحياة ورودا وأزهارا، وتملؤها محبة وبهجة وأفراحا وأنوارا.

لن نفي حق الفقيد عبد السلام كاملا وتاما عندما نتحدث عن أعماله الخيرية التي كان يتستر عليها، ولا يسمح لشمالك أن تعرف ما قدّمت يمينه، ويريدها أن تبقى صدقات مستورة في غياهب وجنبات الاكتنان، ويرفض أن تكون محل افتخاره وتباهيه بها أمام أعين الناس. ومن يعرفه عن قرب، يعرف سخاءه وجوده وكرمه وإطلاق عنان يده التي كان يبسطها كل البسط، ويمد الباع بدل الذراع لمن يأتيه شاكيا وباكيا من ضيق الحال وضنك المعيشة وقساوتها، ومستنجدا ومستغيثا به، وهو واثقٌ أنه لن يردَّه خائبا مكسور الحظ ومفروم الوجدان، وأن خاطره سيُجبر جبرا محكما يرتاح له. ولن يحصد المغيث إخوانه في أوقات الشدائد إلا ظلالا كثيفة تقيه شدة الحر يوم يقف الناس لله رب العالمين، فطوبى له ظلال السحائب الوارفة والواسعة والممتدة. وطوبى له مع ألف غبطة وسعادة.

فقدت فيه التربية مربِّيا ملتزما ومتشبعا بالقيم التربوية العليا سواء في الأقسام مع المتعلمين أو أثناء توليه منصب الإشراف التربوي مفتشا في مادة اللغة العربية التي خدمتها خدمة المحسنين الكبار من غير خذلان أو تراجع. وكان واحدا من جنودها الباسلين والغيارى في الميدان، وأحد حماتها المغاوير الذائدين في جسارة الأشداء عن ربوعها وحماها.

وُلد الفقيد العزيز عبد السلام مختار في سنة 1957م في قرية شيدِّي القريبة من مدينة مروانة، وخطا أولى خطواته في أسرة بسيطة وفقيرة الحال كبقية الأسر الريفية التي عانت من الفقر والشدة وقصر ذات اليد، زمنئذ. وبدوّار شيدِّي أكمل تعليمه الابتدائي، واستطاع أن يواصل دراسته الإعدادية والثانوية في ملحق المعهد الإسلامي بمروانة. ولما أحرز شهادة الباكالوريا في الفرع الأدبي، التحق بجامعة باتنة، وتخرّج منها متحصلا على شهادة الليسانس في الأدب العربي. ثم اشتغل أستاذا في التعليم الثانوي بمدينة العلمة قبل أن يصبح مفتشا للغة العربية لمدة زادت عن نصف قرن قضى سنواتها كلها في مدينة باتنة.

لم يتمكن الفقيد من السير في تعليمه سيرا متواصلا، وفرضت عليه الظروف المقلقة الانقطاع لبعض السنوات القليلة انضمّ فيها إلى عالم الشغل حتى يساعد والده في إعالة أفراد أسرته، وتخفيف ثقل الحمل عنه. ولكن جذوة تعلُّقه بمتابعة الدراسة لم تخمد في نفسه، وكان كلما تيسَّرت له الأمور إلا وعاد إلى القسم مبتغيا الاستزادة المعرفية في نهم وشوق.

أسرَّ إليَّ خِلٌّ من خلَّانه الذي رافقه في مسيرة حياته لمدة أشرفت عن ستين سنة، أسرَّ إليَّ معجبا بذكاء صديق عمره عبد السلام، ومنوّها بتقدمه في مراحل دراسته عن كل زملائه، وتفوّقه في المواد العلمية، وخاصة في الرياضيات، كما حدثني عن اكتمال شخصيته باكرا، وعن تحمله للمسؤولية منذ نعومة أظافره.

وداعا الأخ عبد السلام الذي عرفناه بطول حبل وفائه، وصفاء قلبه، وعفّة لسانه، وطهر يديه، واستقامة منهجه الحياتي، وابتعاده عن الشبهات والمخازي، وانصرافه عن  المستنقعات الآسنة، وارتدائه ثوب النزاهة في العمل، وجدِّيته في أداء واجباته، وحبه الذي لا يزول ولا يُقهر للتربية والتعليم، وحسن معاملته لأصفيائه وخلصائه. وداعا، يا من جمع كل مواصفات القائد والقدوة في التربية، واستحق أن يكون مثالا فذا ونموذجا فريدا للمربِّي المتميز في مكانته وكفايته الذي يصدق فيه حقا ويتطابق معه فعلا البيتُ الشعري الشهير لأمير الشعراء أحمد شوقي:

قم للمعلم وفّه التبجيلا     كاد المعلّم أن يكون رسولا

لم يرض عبد السلام عن كساء التربية الفضفاض بديلا، وظل معتصما في محراب التربية فخورا معتزا بلقب المربي الذي تشرّف به، فعاش مربيا ومات مربيا، ولم يُكْنَ يوما بـ”المناضل”؛ لأنه لم يمتط عربة النضال النقابي الذي لوّث فضاء التربية في انتهازيةٍ لا توصف.

لقد أكرم الله الأخ عبد السلام يوم أن قرن وداعه الأخير بالدخول المدرسي، وهو كرم نغبطه عليه؛ وإن كان أهلا له وأحق به. ونبصر في ذلك مكرمة لإبقاء ذكراه خالدة في الأذهان، وموصولة

بالتربية، لا تزول ولا تمحى ما استمر تدافع وتعاقب الليل والنهار.

تمنيت أن أسمِع هذه الكلمة التأبينية المتواضعة إلى الأخ عبد السلام وهو مسجَّى في نعشه بالمقبرة، ولكن لما كثُر الخطباء والمؤبِّنون أحجمت عن إلقائها، ولذت بالصوم سكوتا. هذا عذري الذي أحسنت فيه الظن، ونزهت ذهني معه من مشتبك التأويل وقبيحه.

السلام عليك، يا أخ عبد السلام الكريم، بكل الألسن واللغات، والسلام عليك في الصباحات وفي المساءات ما تكرر شروق الشمس وما تردد غروبها، والسلام عليك في موكب الأسياد الكرام الخالدين. وثق أننا لن ننساك، وسنظل نذكرك ونختلس القطف من قِمطر ذكرياتك الزكية معنا حتى نجاورك في الثرى ونتوسد التراب. وجعلك الله من المنعمين في الفردوس الأعلى من الجنة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!