النخب الفالسة في نظام الأبالسة
وصف مسؤول جزائري كبير، في خطاب له ألقاه منذ سنوات، الدكاترة الجزائريين ببوعريفو، و”البوعريفو” هو الشخص الذي لا يعرف ولا يعرف أنه لا يعرف، ومع ذلك يعتقد إنه يعرف، هذا الوصف هو مؤلم على أكثر من مستوى.
هو مؤلم لأنه يعبر عن القيمة التي يوليها المسؤول الجزائري الكبير، الذي لم ينه تعليمه الثانوي ولا دخل الجامعة، لحاملي الشهادات العليا، كما ينبئ عن وضع شاذ تعيشه النخبة الجزائرية.
الجزائر، هي من الدول القليلة في العالم التي يضع فيها الجامعي نفسه وبتلقائية غريبة تحت تصرف المسؤول الأمي أو النصف متعلم.
روى لي صديق كيف أنه في لقاء له مع مسؤول كبير، منذ ثلاثين سنة، حاول أن يفهمه بأنهم، أي السؤولين المحسوبين على المجاهدين، هم من يقفون وراء الفساد ووراء القرارات غير السليمة التي كانت تتخذ في ذلك الوقت، فكان رد المسؤول هو أنه شخصيا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، وأن مستوى رئيس الجمهورية نفسه هو جد بسيط، فمن يكتب ومن يصيغ القرارات، ومن يأتي إلى التلفزيون ليحلل ويناقش ويفسر ويقنع الناس بصواب ما تقرره السلطة السياسية، أليس الجامعيون؟
كذلك كان رد المسؤول الذي كان معروفا لدى الرأي العام في ذلك الوقت، وهو رد يحمل الكثير من الصواب، لأن ذلك الجيل الذي لم يكن دخل الثانويات أو الجامعات وجد في الحاملين للشهادات العليا خير أقلام كانت تستجيب لكل ما كانوا يريدون فعله. أقلام تكتب وتحرر وتبرر وتزور وتغطي عليهم.
النخب الجامعية في البلدان الأخرى هي سراج ينير الطريق أمام المواطنين، هي من تقول الحقيقة ولا تخشى السلطة لأنها أقوى منها بعلمها وكفاءتها، هي من تدل الرأي العام إلى الاتجاه الصحيح وتقوده عند الضرورة، لإحداث التغيير الإيجابي.
لعل الكثير من المشاكل التي تعاني منها الجزائر يعود لغياب النخب ولانبطاحها أمام كل من له سلطة ما، وكذلك لقبولها بدور الملمع لصورة المسؤول.
عندما يتحول الدكتور الذي صرفت عليه الدولة الأموال الطائلة لتكونه ويضير إطارا كفء وحرا ولا يخشى قول كلمة الحق، عندما يتحول إلى مجرد منوم للشعب وحامل للكذب أو منمق له فان الدولة تصبح في خطر.
المتابع لتصريحات وممارسات بعض الشخصيات الوطنية المعروفة بكفاءتها والتي كانت إلى عهد قريب نموذجا في حسن الأخلاق والقدرة على التسيير ويستمع إليها اليوم وهي تمجد المسؤول الكبير معتبرة نفسها حسنة من حسناته، فلا نجد سوى أن نتألم لما أصبحت عليه النخب الوطنية.
عندما يقول دكتور في اختصاص علمي جد مهم بأنه “مع العهدة الرابعة بالروح والدم”، نتمنى لو أننا لم نعش حتى نسمع مثل هذا الكلام، لأن الروح والدم لا يقدمان قربانا سوى للوطن أو دفاعا عن الشرف.
كان “قيستاف لوبون ـ Gustave le Bon “وهو أحد المهتمين بدراسة الدهماء la foule وبمدى خطورتها على المجتمعات، وكيف أن الدهماء لا تبني حضارات ولا تؤسس لعمران، بل كل دورها ينحصر في التخريب والدمار، كان هذا الباحث يقول بأنه من غير المعقول أن تنزل النخب إلى مستوى الدهماء، بل أن التقدم الديمقراطي الحق لا يمكن أن يتم إلا عندما ترقى الدهماء إلى مستوى النخب.
كلام “لو بون” يبين جيدا أن مهمة النخبة تكمن في التميز عن العامة بمواقفها وبأخلاقها وبممارستها، وأنها هي من تقود العامة نحو بناء الدولة العصرية التي يسودها العدل ويحكمها العقل.
الانتماء للنخبة ليس اختيارا ولا علاقة له بالجانب المادي أو بالمسؤولية التي يتولاها الإطار الجامعي الكفء، بل بدوره في المجتمع، فعندما نلاحظ بأن عددا جد محدود من الجامعيين هم فقط من يتدخلون في وسائل الإعلام لإبداء الرأي حول القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المطروحة، وأن جل الحاملين للشهادات العليا، بمن في ذلك الأساتذة الذين يحررهم القانون من كل تحفظ في إبداء الرأي، يرفضون التعبير عن آرائهم أو الإدلاء بمواقفهم مما يحدث ومما يقع في البلد، فمعنى ذلك أن الجزائر ليست بخير، وأن أمر توجيه الدهماء متروك للمتملقين ولأصحاب البدع والخرافات، وحتى لدعاة الفتن.
لقد نجحت السلطة في إسكات النخب وتحييدها، وذلك بجعلها إما تعيش في حالة انتظار طمعا في منصب ما، أو بتخويفها مما قد يصيبها من أذى إن هي أبدت رأيا مخالفا للرأي الرسمي.
تغييب أو تحييد النخب، إن كان مفيدا للسلطة في أوقات معينة لأنه يترك لها حرية توجيه الرأي العام كيف ما شاءت، فإنه يحمل في نفس الوقت أخطارا كبيرة لأنه يفرغ الساحة السياسية من كل الرموز الوطنية الإيجابية التي بمقدورها التوجه إلى الدهماء مباشرة والتحدث إليها وإقناعها، عند الضرورة، بعدم اللجوء إلى العنف.
تغييب أو تحييد النخب، هو ما يجعل السلطة اليوم وجها لوجه مع حركة مطلبية تتسع يوما بعد يوم ولا قدرة لأي أحد من المسؤولين المحليين، أو على المستوى الوطني، من التوجه إلى من يقومون بها والتحدث إليهم وإقناعهم بالصبر أو بالعدول عن بعض المطالب.