-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بحثا عن ربيع ثقافي

أمين الزاوي
  • 3177
  • 1
بحثا عن ربيع ثقافي

لن يُكتب للربيع العربي النجاح ما دامت إطلالته غير مترافقة، للأسف، مع ربيع ثقافي، فبؤس السياسة من بؤس الثقافة، وتَبْئيسُ وتَيْئيسُ الثقافة من استبداد السياسة، والثورة التي لا تتقدم داخل رؤية ثقافية تنويرية تتحول في نهاية المطاف إلى تصفية حسابات شخصية بين زعامات جديدة ستكشف عن وجهها لنجدها لا تختلف عن سابقاتها. وكلما كان المشروع السياسي الداعي إلى التغيير ملتحما بمشروع ثقافي معاصر تكون الثورة بخير ويكون مستقبلها أكثر ضمانا.

  • أقرأ ما حدث ويحدث في العالم العربي من تونس، مرورا بمصر ثم ليبيا والسودان وما يجري الآن في اليمن بلد عبد العزيز المقالح وسورية بلد حنا مينة والصومال نورالدين فرح وأستطيع القول بأن صوت المثقف المعاصر الحداثي غائب عن ساعة التغيير، وحين يجيء صوته يجيء متأخرا أو تزويقيا، فالاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب وهو المؤسسة الأعرق في جمع شمل الكتاب العرب منذ تأسيسه العام 1954، نائم في عسل الخوف وهو الذي من المفروض أن يكون ضمير التغيير مؤشر لدلالات الانقلاب والتغيير، فالشعراء والروائيون هم أنبياء حتى وإن كان لا يوحى إليهم إلا أنهم يقرأون كف التاريخ وإيقاع الأيام القادمات، أو هكذا يُفترض، إلا أننا نلحظ بأن صمت الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب والاتحادات والروابط وبيوتات الشعر والنوادي الأدبية التي تناسلت في كل بلد عربي تنتظر تتويج المنتصر بالله الجديد كي تنشر قصائدها وقصصها وخطبها البليغة والمتنبئة والمستشرفة وو وو و… وإنه الدجل والجبن الثقافيان اللذان عمّا وعَامَا على الحياة الثقافية في العالم العربي.
  •  وإذا كانت منظمة الجامعة العربية التي تأسست العام 1945 والتي ظلت خلال هذا العمر كله تجمعا حكوميا بلا معنى ولا روح ولا حركية بدأت تستيقظ من موتها وتتحرك قليلا قليلا، وسبحان محيي العظام وهي رميم، فعلى العكس من ذلك فإن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الذي من المفروض أن يتحرك قبل هذا الهرم المنقرض أو الذي في عداد الانقراض نراه يلتزم الصمت حيال ما يحدث ولم يتمكن من إصدرا بيان في الدفاع عن الحرية والديمقراطية والحداثة التي كثيرا ما تغنى بها في مؤتمرات الفنادق الفخمة والخطب العصماء والمطالبة بتوقيف الموت المباشر للمواطنين. 
  • أما يحتاج هذا الوضع الدراماتيكي العربي اجتماعا للأدباء والكتاب العرب وتدارسا جادا لما يجري من تنكيل في قرائهم أم أنهم يدركون مسبقا أن لا قراء لهم، وأن كتاباتهم هي أساسا كتابات لإرضاء السلطان المستبد، وربما هذا هو الذي يفسر غياب القراءة في العالم العربي، بهذا الحال الثقافي المخزي، منطقي أن لا يكون القارئ العربي معنيا بكاتب غير معني بما يعيشه هذا المواطن (القارئ مواطن أولا) في لحظة الفرح على ندرتها وفي المآسي على وفرتها الوفيرة.
  • ما يجب قوله والتأكيد عليه هو أن الذين تحركوا في مثل هذا المنعطف التاريخي من انهيار أنظمة فاسدة وسقوط رموز الاستبداد الحديث، هم الصحافيون، في الوقت الذي فضل فيه الأدباء والكتاب الجلوس في قاعة الاستراحة أو قاعة تغيير الملابس أو قاعة الانتظار متجنبين إبداء الرأي واتخاذ الموقف، ولكن وبمجرد أن يتضح، غدا!!! الفائز من المنهزم في معركة مصيرية حتى يخرج علينا الشاعر والروائي بلسانه الإبداعي تارة والتنظيري طورا آخر مدافعا عن التغيير و”شاتما” النظام السابق وهو الذي كان قبل أيام “فأرا” يتعشى من فتات هذه السلاطين التي تنقرض واحدا بعد الآخر، ليقرأ المواطن بعض هذا التعفن الفكري الذي لا يخجل البعض من كتابته وهم الذين كانوا قبل أيام أو أسابيع يحضرون ندوات تبجيل هؤلاء المستبدين آكلي لحوم مواطنيهم وهم ينتفخون وتنتفخ جيوبهم من جراء تبجيل الطغاة.
  • ما يحدث في العالم العربي اليوم من رغبة في التغيير وتوقان إلى الحرية يكشف المسافة الشاسعة والتعارض الكبير بين طموح أدباء لاعقي الصحون ومواطن يسعى بكل ما لديه لإسقاط هذا الطاعون، وبالقدر الذي يبتعد فيه هذا المواطن البسيط عن الأديب والكاتب الذي لطالما قرأ عليه عشرات النظريات في الحرية والاشتراكية والحداثة والمعاصرة والمقاومة والتفكيكية والبنيوية وما إليها من قرآنات كاذبة، يقترب من الصحافي الذي لا يتردد في ممارسة المغامرة معه سعيا للتغيير، ها هو الربيع العربي مرة أخرى يعري فصلا آخر من عدم الثقة ما بين الكاتب العربي المأمور وقارئه المتحرر.
  • إن السياسات التي تبنتها الأنظمة العربية من يسارها إلى ليبرالييها إلى إسلامييها ومنذ الخمسينيات قامت على ابتلاع الثقافة المتنورة وإسكات المثقفين النقديين وهو ما كرس وعمق عدم الثقة ما بين المواطن القارئ والثقافة المسموح بها، إن الواقع يؤكد ذلك، فعلى الرغم من ارتفاع نسبة المتعلمين والمتخرجين الجامعيين في العالم العربي، حيث أصبح تعدادهم بالملايين، إلا أن حجم القراءة لايزال يتراوح في مكانه أو في تراجع، فإذا كان الناشر العربي في خمسينيات القرن الماضي يسحب من روايات نجيب محفوظ أو إحسان عبد القدوس أو كتب طه حسين أو دواوين بدر شاكر السياب ثلاثة آلاف نسخة من كل كتاب لعدد من المتعلمين يقل بكثير عما هم عليه الآن في هذا العالم العربي والناطق بالعربية، فإن سحب أهم كتاب اليوم ومع تغير في نسبة المتعلمين لا يتجاوز هذا الرقم، هذا الحال السوسيولوجي المعرفي والسياسي يبين بأن القارئ العربي في حالة إضراب غير معلن عن الكتاب العربي والكاتب العربي وأن سبب هذه القطيعة ما بين القارئ المواطن والكاتب المُسَلْطَن هو هذا التخاذل وهذه التبعية التي يغرق فيها المثقف وإبداعه في مستنقع السلطان وسياسته المعادية للمواطن والمواطنة.
  • الثقافة التي لا تنقد ولا تمارس أخلقة السياسة والسياسيين هي في نهاية الأمر لسان آخر للخطاب السياسي المشوه، وعلى مدى أزيد من نصف قرن لم ينتج العرب، بشكل عام مع استثناءات تؤكد القاعدة، سوى ثقافة سلط وثقافة موسمية تمارس تبرير سلوك الحاكم عبر جملة من الكرنفالات والتظاهرات المتمظهرة.
  • قلة قليلة من المثقفين المبدعين العرب والمغاربيين التي استطاعت أن تنفذ من محاصرة ثقافة السلطان والحاكم بربه أو من الفساد وشراء الذمم وهي التي استطاعت أن تسجل الوجود الثقافي والإبداعي في المحافل الثقافية الإنسانية العالمية، كل ذلك اعتمادا على مجهوداتها واجتهاداتها الفردية بعيدا بل وفي قطيعة عن مؤسسات السلطان في الآداب أو السينما أو المسرح أو الفن التشكيلي، بهذه الأخلاق تشكل لنا رصيد من أسماء كبيرة تبدأ من إدوارد سعيد مرورا ومحمد ديب وآسيا جبار ومرزاق علواش وعبد اللطيف اللعبي ورشيد بوشارب وبوعلام صنصال وياسمينة خضرا وأدونيس وجمال دبوز وهشام شرابي ومالك شبيل و… لقد كبرت هذه الأسماء بعيدا عن ثقافة السلطان وبعيدا عن مؤسساته وماله الذي هو مال فاسد ومناور وشار وبائع للذمم.
  • علينا أن نعترف بأن هناك حالة عربية من الإحباط الثقافي وحالة من الممانعة الثقافية الفردية في الوقت نفسه، وبين هذا الإحباط أو الاستقالة والممانعة، تبدو ساعة العمل من أجل وضع ميثاق ثقافي جاد قد دقت، ميثاق ثقافي من شأنه أن يعيد الربط ما بين المواطنة والثقافة، ربيع ثقافي يتأسس على فلسفة المصالحة ما بين المواطن من جهة والمثقف الجديد من جهة أخرى: مثقف الربيع العربي والقارئ في زمن الربيع العربي.
  •                                                                                                                 aminzaoui@yahoo.fr          
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • بـوعــــــــلام لعقــــــــــــاب

    فعلا أستاذنا الكريم الزاوي؛ كنت واضحا في الطرح، لقد وضعت أصابعك على جروح الثقافة العربية، فقد شخّصت الداء في أماكنه الصحيحة، مثقف سلبي، مهزوم وتابع، لا يتغنى إلا بما يملى عليه. إنه المنتوج الفكري والثقافي لما بعد الاستعمار، الذي استطاعت السياسة أن توجهه في البداية فيما يدعى بالالتزام، عن طريق أدوات معروفة ذكرتها بإسهاب، في صنع وزبر صورة مثقف السلطة، بواسطة ثنائية الترغيب والترهيب.والسؤال المطروح الآن علينا، أصل الحقيقة، هل هو في جهنمية أدوات التسلط، أم في قابلية بعض المثقفين وصمت الآخرين ؟