الرأي

برلماني مسلم في مواجهة الصحافة!!

لم يعرف التاريخ رجلا مثل الدكتور فيليب جرونييه Philipe Grenier )1865-1944) في توجهه الفكري ومسار حياته. فهو فرنسي ينتمي لأسرة بورجوازية عريقة متشبثة بالكاثوليكية، فَقدَ أباه عام 1872 وعمره لم يتجاوز 6 سنوات. وكان والده عضوا في قيادة الأركان لدى نابليون الثالث. تخرج فيليب من كلية الطب الباريسية بنيله الدكتوراه عام 1889 واستقر بعدها في مسقط رأسه، بونتارليي Pontarlier الفرنسية، كطبيب في عيادته الخاصة.

في الجزائر

في عام 1890، زار فيليب أخاه المقيم في مدينة البليدة. وكان ذلك أول احتكاك له بالمسلمين خارج فرنسا. وخلال هذه الزيارة، هاله ما شاهده من بؤس لدى المسلمين خلافا للسكان النصارى واليهود. وفي ذات الوقت لفتت انتباهه عادات المسلمين وتقاليدهم الدينية. وحاول فهم المشهد الروحي والوضع الاجتماعي المزري الذي تعيشه تلك الفئة من السكان.
فتأثر بما رأى وخطرت بباله فكرة اعتناق الإسلام. وقد أسلم عندما عاد إلى مدينة البليدة عام 1894، ثمّ أدى مناسك الحج. وعند رجوعه إلى فرنسا صار مستشارا لرئيس البلدية، منشغلا بجانب النظافة العمومية ومساعدة المعوزين في المدينة.
وقد غيّر هندامه وصار يرتدي اللباس التقليدي الجزائري (المتمثل في البُرنس والعمامة)، وأظهر إسلامه للناس جميعا. وسخر منه البعض حتى لقبوه بـ “رسول الله”. ومع ذلك فاز في الانتخابات البرلمانية عام 1896، علما أنه لم يكن هناك، قبل 20 ديسمبر 1896، مسلم منتخب في البرلمان الفرنسي!
أدان جرونييه البذخ الكبير داخل البرلمان مقارنة بالبؤس الذي يعيشه المواطنون. وكان السياسي جون جوريس Jaures (1859-1914) قد نصح بأن يكون جرونييه “ممثلا لمسلمي فرنسا” وكذلك كان الحال. وإثر زياراته المتكررة للجزائر، حذّر جرونييه من احتمال التمرد على فرنسا نتيجة جور القوانين السارية! وفي البرلمان دافع بشدة عن السكان المسلمين في المستعمرات.

في مواجهة الصحافة

إثر انتخاب فيليب كنائب مسلم في البرلمان ثارت ضجة إعلامية كبيرة في باريس غذت الجرائد مدة طويلة. فقد شنّ الصحافيون ضده حملة شعواء تعرضوا فيها للباسه “الإسلامي”، واتهم بأنه يريد تطبيق الشريعة الإسلامية. ولم يكن جرونييه يخفي إسلامه، بل كان الناس يرونه في شوارع المدينة بذلك اللباس.
فهذه جريدة “لاكروا” La Croix تكتب : “قبل سنوات كان المرتدّ [فيليب جرونييه] أبشع مخلوق في فرنسا المسيحية، أما الآن فقد أصبح نائبا من نوابها في البرلمان”. وكتب صحفي آخر أن جرونييه جاء من ملجأ للمصابين بالأمراض العقلية!
وقد طرح عليه الصحفيون يوم 30 ديسمبر 1896 وابلا من الأسئلة حول اعتناقه الإسلام ولباسه، مثل : لماذا أصبحت مسلما؟ ما هي مزايا الإسلام؟ ما رأيك في تعدد الزوجات؟ وفي القضاء والقدر؟…
ومن بين ردوده نقرأ في جريدة “لو جورنال” Le Journal الصادرة يوم 31 ديسمبر 1896 : “تريدون أن تعرفوا كيف أصبحت مسلما؟ ذلك يتماشى مع ذوقي وميولاتي ومعتقدي، ولم يكن ذلك نزوة أصابتني كما لمّح البعض. فمنذ شبابي كان الإسلام وعقيدته قد أثّرا في نفسي تأثيرا لا رجعة فيه… لكني لم اعتنق الدين الإسلامي إلا بعد قراءة متأنية للقرآن متبوعة بدراسات معمقة وتأملات مطولة. اعتنقت هذا الدين وهذا المذهب لأنهما ظهرا لي أنهما منطقيان. وعلى كل حال، فهما أكثر مطابقة للعلم مقارنة بالدين المسيحي ومذهبه”.
ومن الساخطين نجد أيضا مقالا صدر بُعيْد التحاق فيليب بالبرلمان جاء فيه : “كانت تشريفات اليوم مخصصة للنائب المحمدي [أي جرونييه] بدون منازع… وكان المهرّج البرلماني [أي جرونييه] قد أحاط به جمع غفير من الفضوليين جاؤوا لحضور ‘السلام عليكم’ التقليدية لمُتبّع ملة محمد… فبمجرد دخوله ومروره بأحد الأبواب أرسل بقُبلة إلى خالق المؤمنين… ثم ارتمى على ركبتيه ولحَسَ بساط قاعة البرلمان [المقصود السجود]! وعند الرابعة مساء أدى طقوسه في اتجاه مكة. وعلى الساعة الرابعة وعشرين دقيقة غادر البرلمانيُّ المحمدي القاعة… وفي ركن من شارع بوغونيه أدى إحدى صلواته. وفي هذا المكان أحاط به نحو مائة مواطن جاؤوا لتحيته.”
وكتبت جريدة “لوراديكال” Le Radical يوم 14 جانفي 1897: “سَلك الدكتور جرونييه شارع سانت جرمان راجلا للوصول إلى مقر إقامته. وهناك التحق به صحفي من جريدة “لومتان” Le Matin فدار بينهما نقاش وردت فيه هذه الانطباعات:
– سيدي النائب، أنت تغادر البرلمان قبل نهاية الجلسة؟
– جرونييه: نعم لأن لي صلوات يتعيّن عليّ تأديتها.
– إذن ستغادر البرلمان كل يوم على الساعة الرابعة؟
– جرونييه: أكون أكثر طمأنينة عندما أصلّي في إقامتي. ورغم ذلك سأرى مستقبلا إمكانية أداء كل مناسكي في مقر البرلمان. بهذا الخصوص، يعتقد البعض أني عند السجود أقبّل الأرض. لا أبدا! أنا لا أقبّل الأرض…”.
وقد انقسمت الصحافة إلى قسمين، قسم يتهكّم ويدين انتخاب شخص يحمل هذه العقيدة وقسم كان أكثر تسامحا. فهذه جريدة “لو فيغارو” Le Figaro تقارن جرونييه بالأديب فيكتور هيجو Hugo وبالعالم لويس باستور Pasteur نظرا لإنسانيته وخدماته العلاجية للمواطنين.
ومن بين الآراء المعتدلة نجد صحيفة “لوسوار” Le Soir تشيد بدور جرونييه في دفاعه عن الفقراء والمعوزين. ووجهت اللوم لبقية الصحف نتيجة استهتارها بهذا المواطن موضحة أنه “يعيش على الأقل سعيدا ومرتاح الضمير، وقد صار أرقى منا بعد أن بحث عن عقيدة وعثر عليها”!
وجاء في صحيفة “لو سولاي” Le Soleil : “وماذا إن كان مسلما؟ أليس لدينا الحق في انتخاب مسلم كما لدينا الحق في انتخاب يهودي أو ملحد؟” ويضيف كاتب المقال : “في كل دين ثمة أناس خيّرون. وأنا مقتنع بأن ليس هناك دين أفضل من المسيحية، لكني أتفهّم عندما لا يشاطرني غيري نفس المعتقد. وحتى أعبّر بجملة واحدة عن رأيي أقول: أنا أفضّل مسلما مخلصا غير متزمت على من لا دين له”!
وبعد انتهاء عهدته في البرلمان، كرّس جرونييه حياته لممارسة مهنة الطب، وكان يقوم بمعالجة الفقراء مجانا ويقتني الأدوية لهم حتى وافته المنية. وتخليدا لذكراه، أقامت الجالية المسلمة عام 1983 في مدينة بونتارليي مسجدًا يحمل اسمه. كما نجد في نفس المدينة شارعا ومؤسسة تعليمية باسم هذا الرجل الذي كان قد شغل وسائل الإعلام فترة طويلة.

مقالات ذات صلة