الرأي

“بروطوـ كول”

عمار يزلي
  • 877
  • 6
ح.م

ستة أشهر من الحجر الصحي، أنتج سلوكيات غير مسبوقة عالميا ومحليا. التعامل مع الحجر، اختلف باختلاف الفئات والشرائح والأقوام والجنسيات، ولكن الاختلافات الفردية كانت طاغية: فلكل فرد سلوكه الفردي الخاص به: يتأثر بمن حوله وبمحيطه، لكنه يسلك سلوكا خاصا به وفق منظومته النسقية النفسية الاجتماعية. هناك تطرُّفٌ أحيانا في المواقف إزاء التباعد ووضع القناع والاحتياطات الصحية الأخرى التي تجنِّب العدوى: تطرُّف يمينا أو شمالا: البعض لم يُعر هذه الإجراءات أهمية أصلا لا قليلا ولا كثيرا: لم يضع كمامة على أنفه ولو مرة واحدة بدعاوى كثيرة: البعض يقول لك مبررا: لست امرأة حتى يرغموني على وضع النقاب. البعض يقول لك: لست خروفا أو كلبا حتى أضع الكمامة. البعض يرفض حتى كلمة “الكمامة”، لأنها تحيل على مرجعية “حيوانية” بشكل عام، وهي كلها تبريراتٌ تدخل ضمن ما يسمى نفسيا واجتماعيا بآليات الدفاع الذاتي أو إستراتيجية الرفض: الرفض السياسي أحيانا، على اعتبار أن كل ما تقوله وتقوم به الحكومة، مرفوض ولو كان في صالح الفرد ذاته. البعض على النقيض، يتطرَّف في احتياطات النظافة والتعقيم والعزل والتباعد حتى يصل إلى درجة الوسواس، وهو أخطرُ من الفيروس نفسه، لأنَّ عليه أن يعالج بعد الجائحة ليس من الفيروس، بل من أمراض نفسية مزمنة قادمة كالوسواس القهري والاكتئاب. وبين الموقفين المتطرفين، تقف مجموعة عامة وسطية قليلا أو كثيرا تميل نحو أحد طرفي الاستقطاب.

وجدت نفسي ضمن فئة التطرُّف الوسواسي: لا ألمس شيئا يأتي من الخارج، وإذا لمس أحد زرّ كهرباء سارعت وأمرت على التو بتعقيمه: الغسيل بالجافيل كل يوم: الحيطان كانت بلون داكن صارت بلون أشهب، بلاط الأرضية ولّى حرش ومثقب كحبَّات البغرير، تعقيم كل نصف ساعة لمدخل البيوت، الأواني، الخزانات، الكراسي، مقابض البيبان.. صرتُ أستهلك الجافيل أكثر من الماء.. اشتريت سيتيرنة خاصَّة بجافيل وضعتها في أعلى سطح الدار مع ..الخل؟ هههه.. الدار عادت كلها حموضة وكأنك في معمل خمور.. الرش في كل مكان.. الكحول؟ تعتقد أنك تدخل مركزا طبيا.. قارورات من كل الأحجام والفئات والأشكال.. لا أريد الحديث عن الجفايف التي استوردتها.. بالقنطار.. وتعال شوف حال يدي وأنفي وأذني بعد 6 أشهر.. طابت كفي من فرط الغسل.. “الاقزيما” ركبت جلدي ويدي.. صار الحريق فيهما ألعن من حريق محمد ديب.. صارت أرنبة أنفي محمرة على الدوام، كأي أرنب أبيض أفطس الأنف أحمر المنخارين.. زيد.. آذاني من فرط وضع الكمامة “تهرّات” واستطالتا إلى الأمام، وكان عليَّ أن أضع كمامة ثانية في المقابل في رقبتي لكي أعدِّل من وضعية آذاني لتبقى في مكانها: كمامة تجبد للأمام وأخرى للخلف.. مما تسبب في تهرية منطقة فوق الأذنين ومضت التهرية مثل التصحُّر تغزو شمال الآذان باتجاه شمال الرأس.

لا أريد أن أحكي عن أفراد عائلتي، ولم أنَّهم ليسوا كلهم مثلي، لكن الصغار فعلا تأثروا.. صاروا يصرخون جميعا محذرين إذا ما رأوا شيئا مخالفا لبروتوكولي في البيت: بابا.. بابا.. بابا.. أحميدا توشا في صباط ماما.. قوله يروح يعقم ويدوش.. بابا.. بابا.. شوف شوف.. ناموسة دخلت.. جيب الفليطوكس.. فيها كورونا.. بابا.. بابا.. قدور راه يكح..

زوجتي ملّت وهربت إلى بيت أبيها.. أحسن.. لم أعد آكل إلا أما أطهيه أنا.. صرت أخشى من أن من يقوم به لا يحترم “البروطو.. كول”.. لهذا لا آكل إلا ما أحضِّره بنفسي كما لو كنتُ في مخبر بيولوجي عالي الخطورة.

صرت أشك في كل شيء وأعيد الحساب لكل شي..

بالمناسبة سأعيد حساب عدد كلمات العمود.

مقالات ذات صلة