الرأي

بروكسل ودمشق

من حق مدينة بروكسل، أن تحزن على أبنائها، وأن تُجبر العالم على أن يحزن معها، كما فعلت باريس ومدريد ولندن ونيويورك في أحزان سابقة، ومن حق الأوروبيين أن يحموا أنفسهم من مارد الإرهاب، بغض النظر عن المخبر الذي صنّع هذه الآلة المميتة، لأن المنطق يقرّ بأن الإنسان خلق ليعيش، وليس لأن يُقتل في المطارات و”الميتروهات”، فمن قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا. ومن حق مدينة بروكسل أن تلقى الدعم المعنوي حتى من الشعوب العربية والإسلامية، لكن أليس من حق شعوب أخرى في غزة ودمشق وبغداد وصنعاء وبنغازي أن تجد من يذرف معها دمعة حزن، على الملايين من القتلى والثكلى، الذين يُشيّعون يوميا إلى مثواهم الأخروي أو الدنيوي البائس. فقد أكدت مشاهد الحزن وطقوس الدعم المعنوي، والتغطية الإعلامية لمجزرة بروكسل الإرهابية، أن الأمم طبقات، وحتى الجثث طبقات.

فمتى نعزف في مبارياتنا الكروية نشيد العراق أو سوريا؟ كما فعل الأوروبيون مع باريس ومع بروكسل، تضامنا مع بعضهم البعض وهم على حق في ذلك، حتى تخال أنهم مثل البنيان المرصوص الذي يشدّ بعضه بعضا؟ ومتى تتزين الأهرامات التي عمرها قرابة أربعة آلاف سنة، أو مقام الشهيد الذي يروي قصة أكبر ثورات العالم، بلوني علم فلسطين أو ليبيا، كما تزين برج إيفل في باريس الذي شيد عام 1889 وتمثال الحرية في نيويورك الذي نُحت عام 1886، بلون العلم البلجيكي؟ بل متى نبكي على دمشق، ونكفكف دمعنا، على وزن قصيدة أحمد شوقي التي بكى فيها دمشق، بعد سقوطها في معركة ميسلون أمام الفرنسيين، عبر قصيدة أنهاها ببيت شعري لم يعد صالحا، وهو أن للحرية بابا، بكل يد مضرجة يدق؟

ولأننا صرنا مقتنعين بأن قوتهم في ضعفنا، وبأن حزنهم يلغي فرحنا، وفرحهم يلغي حزننا، غرقنا في “مازوشية” غريبة، إلى درجة أننا نذرف الدمع في مجالس عزائهم، ولا نشيع أصلا موتانا الذين يسقطون بشكل يومي، وليس بين السنة والأخرى.

صحيح أن بروكسل التي تعتبر عاصمة غير رسمية للاتحاد الأوروبي، “دلّلوها” بعدد من المقرات التي تجمع الأوروبيين في مجلس الاتحاد الأوروبي والمفوضية الأوروبية، وتضم الجامعة الكاثوليكية الأكبر في العالم، مما جعل شكواها تثير الجسد الأوروبي بالسهر والحمى، إلا أن الصحيح أيضا أن دمشق كانت عاصمة للدولة الأموية التي وضعت أسس مختلف العلوم العصرية، وبغداد كانت عاصمة للدولة العباسية التي سارت بالعالم قرونا إلى الأمام، في مختلف المعارف، مثل رياضيات الخوارزمي، وفيزياء ابن الهيثم، وفلك البيروني، وكيمياء جابر بن حيان، وطب الرازي، وصيدلة الإدريسي، وإسطنبول كانت عاصمة للدولة العثمانية التي أوصلت هذه الشمس المشرقية، لتشرق على غرب يبدو أنه يريد أن يعيش لوحده في النهار.

لن نحسد بروكسل الحزينة، وهي تبكي أبناءها ضحايا الإرهاب، ولكن من حق دمشق وأخواتها من المدن العريقة أن نتذكرها أيضا بدمعة، وذلك أضعف الإحساس.

مقالات ذات صلة