الرأي

بسم الله الرحمن الرحيم

التهامي مجوري
  • 4215
  • 0

هذه الجملة بألفاظها الأربعة، تمثل آية من القرآن الكريم وردت في سورة النمل في قوله تعالى (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم)، وقد افتتحت بها جميع سور القرآن، إلا سورة التوبة فقد جاءت من غير بسملة.

هذه الجملة تحدى بها عمار سعداني، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، السيدة لويزة حنون زعيمة حزب العمال، الأسبوع الماضي، وقال لو أنها تقول “بسم الله الرحمن الرحيم”، فإنني أستقيل من الحزب، واستجابة السيدة حنون لهذا التحدي قالت لويزة حنون “بسم الله الرحمن الرحيم”، لترمي بالكورة في ملعب سعداني، لتتحداه بدورها ليبر بقسمه ويسقيل من منصبه، رغم انها من عادتها البسملة .

وبعيدا عن الصيغ البلاغية التي يمكن استحضارها في مثل هذه التصريحات فإن تحدي عمار سعداني، للسيدة لويزة حنون بهذا الموقف يعيدنا إلى المربع الأول لمشروع المجتمع الجزائري، وثوابته وهويته ومخزونه الثقافي، المحسوم نظريا منذ قرون.

لقد حسم المجتمع الجزائري الموضوع على الأقل منذ بدايات الحركة الوطنية السياسية والثقافية، ابتداء من حركة الأمير خالد، ومرورا بجمعية العلماء وانتهاء بحزب الشعب وحركة الانتصار، ثم توج هذا الحسم في ثورة التحرير في سنة 1954، بأن العمق الجزائري وثوابته، هي “الإسلام والعربية والوطن”، وتأكد ذلك ببيان أول نوفمبر الذي نص على أن مبادئ الإسلام إطار ثابت: “بناء دولة اجتماعية ديمقراطية في إطار المبادئ الإسلامية”، حتى أن الأزمة البربرية التي وقعت في حزب الشعب وحركة الانتصار، كانت تمثل الشاذ الذي لا يقاس عليه في تاريخ الحركة الوطنية، بحيث كان الكلام عنها باعتبارها أزمة دخلية على الحركة الوطنية وليست من صلبها.

فالجزائر إذا بنت ثوابتها بناء متجذرا منطلقا من مخزون الجزائر العقدي، الثقافي والإجتماعي، وكذلك كانت قبل سنة 1830، التي دخلت فيها فرنسا بمشروعها التغريبي التحديثي الذي كاد يمسخ الجزائر لولا قرن من المقاومة المسلحة [حركات المقاومة 1830/1916]، ونصف قرن من النشاط الثقافي والسياسي الإصلاحي والثوري.

ولكن للأسف ما كان من ثوابت ومسلمات في الحركة الوطنية، أضحى كله قابل للإهتزاز والتبديل والتغيير منذ استعادة السيادة الوطنية، أي منذ مغاردة الاستعمار هذه الأرض، وبتتبع بسيط لواقعنا وصراعاتنا الثقافية والسياسية، يلاحظ المتابع أن ثوابت الحركة الوطنية كلها أضحت من الأمور القابلة للنقاش والمراجعة، ابتداء من الدين الإسلامي الذي هو الدين الذي احتضنته الجزائر منذ سنة 50 للهجرة، إذ بمجرد استقلال البلاد، والشروع في وضع دستور للبلاد، حتى ثار الجدل حول هذا الدين، هل هو دين الدولة؟ أم دين الشعب؟ ورغم أن الدين الإسلامي كان أول عاصم للشعب الجزائري من التفسخ والانحلال والذوبان في ثقافة الاستعمار الغازي، واهم رافد للحركة الوطنية والثورة بعد ذلك، جهادا وشهادة ونصرا من الله وفتحا، فإن بعض الجزائريين أرادوا أن يتحللوا من هذا العاصم الأول والرافد الأهم، واعتباره قضية شخصية تهم الأفراد ولا علاقة لها بالدولة، ولذلك كان هؤلاء حريصون على أن يكون الدين الإسلامي دين للشعب دون الدولة، حتى لا يكون للدين دخل في مقررات الدولة.. وقد كانت الغلبة لمن قالوا بأن الدين الإسلامي دين للدولة الجزائرية وثبت ذلك كمبدإ غير قابل للتراجع، وكذلك خيار اللغة العربية، فقد ثارت معارك كبيرة حول أهميتها في منظومة السيادة الوطنية، وكانت المقررات التشريعية كلها لصالح اللغة العربية كلغة وطنية رسمية، وما وقع مع الدستور واللغة العربية، وقع أيضا مع قانون الأحوال الشخصية –قانون الأسرة-، فقد بقي هذا القانون معلقا ردحا من الزمن، إلى غاية الثمانينيات من القرن الماضي، وحسم هو أيضا لصالح الأغلبية في المجتمع، فكان هذا القانون في مجمله مبادئ وغايات من الفقه الإسلامي، وهذا ما كان حتى خلال الفترة الاستعمارية، التي كان بعض الاندماجيين فيها يؤكدون على ضرورة التمسك بالأحوال الشخصية الإسلامية، حتى لا يصبحوا كفارا؛ بل إن هؤلاء الرافضين للدين والعربية وقانون الأسرة، شككوا حتى في انتمائنا الجغرافي حضاريا، فقالوا إن امتدادنا الطبيعي هو البحر الأبيض المتوسط، وليس المشرق العربي الإسلامي، رغم أن التوجه المتوسطي لم نر منه إلا العار والغبن؛ بل لم تر الجزائر في تاريخها قبل الإسلام وبعده من هذا الغرب إلا الخراب، من الرومان إلى الفندال إلى الأسبان وأخيرا الفرنسيس، على خلاف الشرق الذي لم يقصر في الانتصار لقضايانا العادلة من القدم.

ولكن هذه القضايا التي تمثل في اعتقادي جوهر الهوية الوطنية، لا تزال من الأمور التي يتحايل فيها بعض الجزائريين على المقررات الوطنية، الذين لا يريدون للإسلام أن يتدخل في قضايا الإنسان، ولا لبروز انتمائنا الحق.

فالإسلام رسميا هو دين الدولة الجزائرية، ولكنه غير معتبر في الكثير من توجهات البلاد الثقافية والتشريعية؛ لأن الإسلام في نظر البعض، لا دخل له في منظومة الدولة الحديثة، ومن ثم لا يصلح مرجعية في حياة الناس، فهو دين للأفراد. فالمادة مثبتة في الدستور، ولكن عمليا رأي الفريق الذي هزم قبل خمسين سنة هو الجاري به العمل الآن، وهذا الفريق من ممثليه اليوم لويزة حنون التي ترفض قانون الأسرة ولها موقف من الإسلام، وهو ما أراد الإشارة إليه عمار سعداني عندما تحداها بأن تقول بسم الله الرحمن الرحيم؛ لأنه يعلم أن حنون لها موقف من البسملة؛ لأنها تعتقد ان البسملة تمثل مشروع خصم لها في الساحة السياسية، ولذلك رفضت في لقاء روما عندما كانت من بين أحزاب المعارضة، أن يخاطب الشعب الجزائري بـ”أيها الشعب الجزائري المسلم”، وإنما طالبت بأن يخاطب الشعب بـ”أيها الشعب الجزائري”؛ لأن كلمة المسلم مصطلح يصب في وعاء الفيس يومها الذي كان طرفا في ذلك اللقاء، وفي غيره من اللقاءات التي حضرتها حنون ورفضت فيها هذا المصطلح، بينما عندما طرح على الأستاذ عبد الحميد مهري رحمه الله مصطلح “الدولة الإسلامية” الذي كان شعار الفيس وينادي به الشيخ عباسي مدني وهو خصم سياسي للأفلان، فإن مهري لم يرد المصطلح، وإنما قال إن لعباسي فهمه للدولة الإسلامية.

وعليه فإن تحدي السيدة حنون بقولها بسم الله الرحمن الرحيم، ليس إلا ردا شكليا على سعداني، ولا يسقط تحديه المبني على فهمه للمنظومة التي تنتمي إليها لويزة حنون.

في الواقع لا يهمني الانتصار لسعداني أو حنون في هذه القضية، في إطار سجال سياسي بين حزبين، وإنما الذي يشغلني كمثقف يهمه مستقبل بلاده وهوية شعبها أن لا تبقى مثل هذه الأمور معلقة، أو محل جدل ونقاش عقيم، وإنما لا بد من الغوص في عمق المشكلة والبت فيها نهائيا، لكي لا تبقى المشجب الذي يعلق عليه الناس انتصاراتهم وهزائمهم، فلماذا تبقى العربية؟ ولماذا يستبعد الإسلام من الحياة السياسية؟ ولماذا نخاف من الأمازيغية لمجرد أن يتبناها فرانكوفوني أو شيوعي أو حتى حركي؟ أقول هذا الكلام؛ لأن متابعتي للموضوع لأكثر من أربعين سنة، رأيت أن الوطنيين المخلصين في كثير من الأحيان، ضحايا لمشاريع تضليلية يُغْفِلون أبعادها سهوا أو غفلة أو جهلا.. فعندما تطرح الأمازيغية كقضية وطنية، لا تطرح بمفردها كمسألة ضمن مشروع ثقافة المجتمع وهويته، وإنما تطرح في إطار الصراع اللغوي، لتكون الفرنسية بديلا عنهما معا، في حين ان العربية هي اللغة الوطنية الرسمية والفرنسية هي اللغة الأجنبية التي يجب أن نتخلص منها كما تخلصنا من أهلها، اما الأمازيغية كتراث شعبي، أو كلهجة قابلة للتطوير، او كلغة قابلة للتعميم، لا ينبغي ان تطرح كبديل لواقع قابل للإزالة، وإنما تطرح كقضية في إطار المصلحة الوطنية بجميع أبعادها التربوية والثقافية والاجتماعية. 

وعندما أراد البعض حماية الثوابت الوطنية، وعلى رأسها العربية والإسلام، قرروا استبعدها تماما من ساحة النضال السياسي، فتقرر في ندوة الوفاق الوطني استبعادها من ساحات النضال السياسي، وجاءت بعدها قصة التكيف مع القانون، فـ”طهرت” برامج الأحزاب من كل ما هو عربي وإسلامي، فحلت حركة الأمة نفسها ورفض رئيسها بن يوسف بن خدة التكيف مع قانون الأحزاب الجديد، معتبرا ذلك إخلالا بالدستور، وتراجعا عن مكاسب وطنية هامة، كما رفض حزب بن بلة الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر “الأم دي آ”، وحل بقوة القانون، وتكيف حزب حركة النهضة الإسلامية ليصبح حركة النهضة فقط، ويتحول حزب “حماس” حركة المجتمع الإسلامي، إلى حزب “حمس”، حركة مجتمع السلم.

مقالات ذات صلة