بكالوريا على مقاس الكسالى
تعرّضت البكالوريا منذ نحو 10 سنوات إلى ضربات موجعة، مسّت هيبتها في الصميم، حيث عبث بها النفخُ السياسي في النتائج، لتأكيد ـ بالنسب فقط ـ نجاح “إصلاحات” الزيغ، وكثُرت عملياتُ الغش الجماعي والفردي، فضلاً عن تحديد العتبة التي شُرع العمل بها استثنائياً في عام 2008، بسبب كثافة البرامج التي جاءت بها “الإصلاحات”، لكنها تحوّلت إلى “عادة” سنوية.
وعوض أن تعمل وزارة التربية على مراجعة “الإصلاحات”، واتخاذ الخطوات الضرورية لاستعادة البكالوريا مصداقيتها، راحت تصرّ على غيّها، فها هي تستعدّ لتحديد عتبة الدروس مجدداً، تحت ضغط التلاميذ، بل الأدهى من ذلك، أنها قررت العودة إلى العمل بنظام الإنقاذ ابتداءً من بكالوريا 2015، فضلاً عن إمكانية إجراء دورة استدراكية للبكالوريا.
هذه التنازلات الخطيرة التي تقدّمها الوزارة دون ضرورة، تؤكد أن السياسة لا تزال تتدخل في قطاع التربية الذي كان ينبغي أن يُسيّر بشكل بيداغوجي علمي بحت، يرفض المجاملات أو الحسابات؛ فما يهمّ السلطة في الواقع هو إنجاح مئات الآلاف من التلاميذ في البكالوريا بأي وسيلة، لأهدافٍ في نفسها، بغض النظر عن تأثير ذلك سلباً في مستوى التعليم الجامعي، وفي سوق الشغل مستقبلاً.
لو كانت الوزارة حريصة على رفع المستوى المعرفي للتعليم العالي، وترقية البحث العلمي، لعادت إلى العمل بالنظام السائد في العقود الماضية، حيث كان لا يظفر بالبكالوريا سوى المجدّين الذين يثابرون ليلا ونهارا لتحقيق النجاح، ويراجعون كل الدروس في مختلف المواد بشكل مكثف ومركّز، استعداداً للإجابة عن أي سؤال في البكالوريا حول أي درس.
أما الآن، فقد تغيّر الوضع، وأضحى الطالب مدلّلاً، سطحياً، لا يبذل جهوداً كافية حتى لاستيعاب نصف المقرّرات، ثم يخرج رفقة زملائه إلى الشارع للمطالبة بعتبةٍ لدروس معدودات سترِِد منها أسئلة البكالوريا، وترضخ الوزارة للأمر بكل بساطة.
وبمرور السنوات، أصبحت مسألة العتبة هذه مكسباً وحقا لا يقبل المرشحون للبكالوريا التنازل عنه، ولسان حال كل دفعة يقول لمسؤولي الوزارة: ما دمتم قد حدّدتم العتبة لطلبة الدفعات السابقة منذ 2008، فلماذا تستثنوننا نحن!!؟ ويواصلون الاحتجاجات إلى أن ترضخ الوزارة لهم كالعادة، سيما وأن تحديد العتبة يساهم في رفع نسبة النجاح، وهو ما يخدم السلطة في آخر المطاف، ويسمح لها بتوظيف الرقم المضخّم للتدليل على نجاح “إصلاحاتها” التربوية المزعومة.
والأدهى من ذلك، أن نسبة النجاح المبالغ فيها والمحققة كل سنة، لم تُقنع السلطة كما يبدو، ولذلك قرّرت العودة ابتداء من جوان 2015 إلى نظام الإنقاذ، وإجراء دورات استدراكية للبكالوريا!! ما سيجعل نسبة الناجحين ترتفع بشكل صاروخي مستقبلاً، فيحقق التلاميذ جلّهم النجاحَ إلاَّ من أبى.
نظامُ الإنقاذ كان معتمَداً في العقود الماضية بسبب انخفاض نسبة النجاح، وعدم تجاوزها الـ20 بالمئة في أحسن الأحوال، فما مبرّره الآن، والحالُ أن مئات الآلاف من التلاميذ يظفرون بالبكالوريا كل سنة، برغم ضحالة مستوى الكثير منهم!!؟
الكثيرُ من الطلبة يتخرّج في الجامعة بمستوياتٍ معرفية متدنّية، ما يجعل سوقَ الشغل يلفظهم، كما تدهور البحثُ العلمي أكثر، وأصبحت جامعاتُنا توضع في ذيل ترتيب الجامعات العالمية، بل وتفوّقت علينا حتى جامعات إفريقية وعربية، ومع ذلك تصرّ السلطة على ذبح البكالوريا كآخر امتحان محترَم، والقضاء على ما بقي فيه من مصداقية وهيْبة.