الرأي

بلدٌ بلا مشروع!

أرشيف

لم تكد آخر زغرَدة نجاح في امتحان البكالوريا، تلفظ آخر نفس لها، حتى باشر قرابة نصف مليون ناجح من طلبة وطالبات، سباق بلوغ مبتغاهم الدراسي. وكالعادة، بقي الطب حلم الجميع، ورفعت وزارة التعليم العالي سقف معدل دخول هذه الشعبة العلمية، حتى تخال أنه لا اختصاص في الجامعات الجزائرية غير الطب، وأنه لا همّ للقائمين على الجامعة غير وضع الحواجز لمنع تدفق مئات الآلاف من الطلبة، طلبا للطب.
عندما عين الراحل أحمد بن بلة في خريف 1963 رئيسا أول لجزائر الاستقلال، وفي أول خرجة له في شوارع العاصمة، انحنى سائلا طفلا في العاشرة عن حلم حياته، فرد الطفل ببراءة: “أريد أن أصبح طبيبا”، فابتهج الرئيس الراحل ووعد بتمكين الجزائريين من مهنة الطب.. والآن وبعد 56 سنة من الاستقلال، مازال الحلم هو نفسه، ولو يُسأل عشراتُ الآلاف من الناجحين، ومن التلاميذ الذين مازالوا في المدارس، عن أحلامهم المهنية، فسيختصرونها في الطب.
المشكلة أن الدولة لا تبذل أي جهد لتطوير أحلام الجزائريين، ولا نطلب تغيير واقعهم المعيش البائس، فالبلاد التي وصلت إلى الحائط بعد انهيار أسعار البترول، لم تبذل أي جهد لخلق ثروة أخرى، وما يحدث في جامعاتنا من الطلبة ومن المسؤولين، دليلٌ على أن الرهان على الزراعة والري والسياحة والصناعات الخفيفة والتقليدية لتعويض الاتكال على النفط، هو مجرد ذر للرماد في العيون وتخدير للعقول، فلو كانت البلاد تراهن على الاكتفاء الغذائي الذاتي وعلى تصدير منتجاتها، لزرعت كليات فلاحة في كل مكان، ولاصطادت الطلبة الأوائل، من خلال ضمان العمل لهم مباشرة بعد التحاقهم بالجامعات، بمرتبات عالية، ولكن حالة الموت “الإكلينكي”، التي يعيشها الاقتصاد الوطني هي التي جعلت الطلبة يضعون الطب والصيدلة وجراحة الأسنان كحلّ وحيد لمستقبلهم.
مازالت الدولة تمنح الأرض الصالحة للزراعة لمن لا يستحقها، ومشاريع السياحة لمن لا يفقهون شيئا فيها، فحدث الشقاق بين الجامعة والمؤسسات الاقتصادية، وزادته الإدارة الرديئة والبيروقراطية، ضبابية، فتحولت الجامعة الجزائرية إلى أكبر مطبعة للشهادات الورقية، التي تسببت في أزمة ورق، ولم تحلّ أي أزمة في البلاد.
الجامعة عندنا مجرد مؤسسة كبيرة تسيَّر فيها المشاكل والإضرابات على مدار السنة، وتُصرف فيها ميزانية ضخمة على الإطعام ومرتبات الأساتذة، وهي جزءٌ من مشكلة الجزائر وليست حلا مأمولا فيه أبدا، ولا ندري لماذا يرفع مسؤولونا معدل كلية الصيدلة، وكل الدواء نستورده من الخارج؟ ولماذا يرفعون معدل كلية الطب وهم أنفسهم إذا مرضوا يطلبون الشفاء في الخارج؟ ولا ندري لماذا يتحدثون عن الفلاحة والسياحة ولا يزرعون جذورها في جامعاتنا؟
نعود إلى أول رئيس دولة في تاريخ الجزائر المستقلة، الذي عايش حلم طفل جزائري في دخول كلية الطب، ونستذكر ما قاله له الرئيس الصيني “ليو شاوتشي” في زيارته الأولى إلى الجزائر: “لو تراهنون على الزراعة فبإمكانكم إطعام إفريقيا وجنوب أوروبا”.
توفي الرئيس الصيني سنة 1969 وتحولت بلاده إلى قوة اقتصادية كبيرة، وجاء من بعد أحمد بن بلة، ستة رؤساء والمئات من الوزراء، وتغيَّر العالم رأسا على عقب فكريا وسياسيا واقتصاديا.. وبقي حلم التلميذ الجزائري واحدا: كلية الطب!

مقالات ذات صلة