جواهر

بلقيس القائدة

ليلى محمد بلخير
  • 1242
  • 4
أرشيف

اهتمّ القرآن بعرض النّماذج والصّور التي يمكن أن تتجاوز حرفية الزّمان والمكان ونمطية الأشكال والأسماء، بشكل يعزّز قدسيته وإعجازه، ومن ذلك نجد قصّة “بلقيس” ملكة سبأ، تعرض نموذجا للمرأة القوية الرشيدة، يخضع لحكمها الرّجال، واستحقت هذه المكانة بفضل المؤهّلات التي حظيت بها من رجاحة عقل وفكر راشد، وحنكة في التسيير والقيادة، ويأتي سياق القصة مشوّقا ومثيرا على لسان الهدهد الذي غاب ورجع مستكشفا خفايا هذه القصة في سورة النمل، ((إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24)))؛ إنها امرأة استثنائية، تملك الرّجال والنّساء، بماذا تملكهم؟ بحسن إدارتها، وسياستها الرشيدة، نموذج خاص بمؤهلات فريدة لا يمكن أن تتكرّر، وأهمّ مقوّمات الشّخصية القوية تتوفر في ملكة سبأ هي الحزم ورجاحة العقل، الثّبات في الموقف، الكياسة والحذق في القيادة، مشاركة أولي النّهى، بالحوار والتشاور، ويظهر الحسّ القيادي عند بلقيس لافتا للنظر، في تفضيلها المصلحة العليا وهي المحافظة على الأمن والاستقرار على الانتصار للعواطف والأهواء، مثل ما جاء في قوله تعالى ((قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35))).
تعدّ قصّة بلقيس نموذجا حقيقيا يصوّر تمكين المرأة من القيادة، ويعرض قدرتها الفذّة في ذلك، ولكن يجب أن لا يأخذ الموضوع طابع الهيمنة والانتشار، بحيث يخرج من فرادته كنموذج، وهذا ما نلمسه في واقعنا المعاصر، الانشغال بفخامة وتفخيم الأسماء النسوية على حساب المضمون الحقيقي الذي خلقن من أجله تربية الأجيال، فبات وبالا على الأسرة بالتفكك والناشئة بالدمار والتشرد، لماذا ظاهرة الخلع في تزايد في مجتمعنا المعاصر؟ لماذا الطلاق والضّنك؟ من زرع الوهم بالإكثار من النماذج النسوية وتمكينها من صنع القرار؟ فكان القرار للأسف الشّديد بعيدا كلّ البعد عن الاستقرار والاستمرار في طبيعتها الأنثوية الرقيقة، لأنّ اختلال التحكّم في المواقف هو السّبب الرّئيس في البؤس الذي تتخبّط فيه الآن، وتكون نهاية القصّة متّسقة مع منطق الأحداث، حيث تقود بلقيس رعيتها إلى الإيمان بالله، ويوضح القرآن خطه المتوازن في عرض النّموذج بحيث لا يفقد طبيعته وخصوصية أثره، لأنّ الإكثار منه يَخرج به إلى التّمييع والتّحريف والفساد الكبير.

مقالات ذات صلة