بنات الشارع متسولات في النهار وبائعات هوى في الليل
كانت الساعة تشير إلى تمام الحادية عشرة ليلا في آخر يوم أربعاء لسنة 2010، الجو البارد فرض حضر تجوال في شوارع وأحياء العاصمة، لا تجارة ولا نقل ولا حركة، فالكل دخل في نوم عميق أو يستمتع بدفء البيت في عز الشتاء، لكن هناك شريحة من الناس وجدناها تفترش الأرصفة في تجمعات من البيوت “الكرطونية” الصغيرة تقابل مسجد الرحمة في قلب العاصمة.
- مراهقات وأرامل وعجائز وأمهات يرقدن جنبا إلى جنب بحثا عن الدفء والآمان، في شوارع فرض فيها المنحرفون والسكارى قانون الغاب، لم نكن نتصوّر يوما أن شوارع وأزقة العاصمة تعج ليلا بهذا الكم من الفتيات والنساء وحتى العجائز، ولولا المهمة الصحفية التي كلفنا بها لما درينا بوجودهن أبدا.
- أطفال غير شرعيين ومحاولات انتحار
- وحسب أحد العارفين بهذه الشريحة فقد أكد لنا أن المخاطر التي تواجهها هذه الفئة من الفتيات كبيرة منها خطر الحمل، وغالبا ما يقع ويدفع بعضهن إلى محاولة الانتحار، خاصة عندما تفشل الضحية في التخلص منه فتزيد متاعب الحياة ومحنها. وغالبا ما تلقي هؤلاء بالأجنة في أقبية العمارات مباشرة بعد الولادة أو في المزابل العمومية غير مكترثات بمصير المواليد إن كان الموت أو العيش في دور الأيتام. وحدث كثيرا أن قامت السلطات الأمنية بجمع جميع المتشردات اللواتي يتواجدن في تلك الناحية لإخضاعهن إلى تحاليل طبية تكشف أم الجنين الذي وضع، وهو الإجراء المعمول به من قبل الشرطة، إلا أن ما يقع في غالب الأحيان هروب أم المولود من تلك الناحية إلى ناحية أخرى حتى لا يكتشف أمرها، متبرئة من ابنها الذي يدفع طيلة حياته ثمن انصياعها لشهواتها وانحرافها.
- وأضاف مرافقنا “يمكن اعتبار المشردات أكثر الفئات المتورطة في إنجاب الأطفال غير الشرعيين والتخلي عنهم في الأماكن العمومية، كما لهن دور في ارتكاب مختلف الجرائم الأخلاقية والقانونية بداية من السب والشتم والضرب والجرح العمدي إلى السرقات والاعتداءات على الأنفس ونهاية بالدعارة، لذا تجدهن من الفئات الأكثر عنفا، لأن الشارع هو الذي تكفل بتربيتهن بعدما حضنتهن أرصفة الطرقات وأسقف المحلات والعمارات، مما أدى إلى إفراز ظواهر سلبية جديدة وغريبة انجرت عن التشرد في ظل غياب الردع. ورغم تخصيص الدولة مراكز لإيواء هؤلاء المشردين، إلا أنهم يفضلون الشوارع لأنها لا تقيّد حريتهم.
- من الشارع وإلى الشارع
- في العاصمة بعد منتصف الليل تجد فتيات في عمر الزهور تلقفهن الشارع وسرق منهن البراءة والأنوثة والجمال، هربن إلى الشارع بعدما ذاقت بهن السبل وانقطع حبل الأهل والأقارب، ومن بينهن “حكيمة” ذات الـ 14 سنة، كانت تفترش بيتا كرطونيا صغيرا مقابل مسجد الرحمة، وكانت تبتسم وتتحدث ببرودة كبيرة “إرحلوا عني أتركوني، كرهتكم، أيقظتموني من النوم”، ثم غطت وجهها وأكملت “لا تصوّروني، كرهت مراكز الرحمة إنها كابوس”، وبصوت خافت سألناها، »لماذا تكرهي هذه المراكز«، فأجابت بتذمر واستهزاء “تعرضت داخلها في طفولتي إلى تحرشات ومضايقات من طرف الأولاد، أنا أكرههم جميعا ..أريد البقاء وحدي اتركوني”، ولما زاد انفعال خديجة ابتعدنا عنها، فأكد أحد الذين يعرفونها من وزارة التضامن أنها ولدت في الشارع وكبرت دون أولياء ولا رعاية، وهي اليوم تستغل من طرف المنحرفين مقابل المال والطعام.
- وغير بعيد عن خديجة لمحنا فتاة في بداية العشرينات تحتضن طفلا داخل بيت كارطوني لا تتعدى مساحته مترين، حدقت إلينا بنظرات حادة، وطلبت منا ألا نصوّرها، اقتربنا منها بحذر فغطت وجهها واحتضنت طفلها بقوة، حاولنا استدراجها بالكلام، غير أنها صرخت في وجهنا “إرحلوا عني، كرهتكم، دعوا طفلي ينام بهدوء..”، وأمامها كانت تنام فتاة لايتعدى عمرها 16 سنة، كانت تغطي نفسها برداء ممزق، أيقضها ضوء الكاميرا من النوم، فقامت مرعوبة، وما أثار انتباهنا أنها كانت تغطي جسمها بإحكام، فهمست إحدى السيدات التي كانت برفقتنا “إنها حامل”، وما كان من الفتاة الصغيرة إلا أن قامت وهربت إلى مكان آخر. تبعناها وإذا بها تدخل داخل كوخ كرطوني كان بداخله أربع فتيات في العشرينات دائما رفقة أطفالهن، واحدة منهن كانت تضم طفلين، بعد إلحاح تمكنا من الحديث مع إحداهن وكن يدعونها كاتيا، سألناها من أين أتت فقالت “أتيت من بعيد.. طردني إخوتي من البيت بعدما ماتت أمي وقسم الميراث، أهلي لم يبحثوا عني منذ ثلاث سنوات، وأنا ألجأ للتسوّل في المساجد”، دعوناها للمجيء معنا إلى مراكز الإيواء التابع لوزارة التضامن فرفضت وقالت “هذه المراكز ستعمل على نقلي للبيت، وأنا لا أحب الرجوع لأن إخوتي سيقتلونني، خاصة وأنا بطفلين؟”، ثم سكتت وانهمرت الدموع من عينها.
- في هذه الأثناء أكدت لنا إحدى العارفات بواقع بنات الشارع أن معظمهن يتم استغلالهن من طرف منحرفين وحتى شبكات دعارة، ومنهن من باتت تمتهن مهنة البغاء لما فيها من ربح، وقالت “المتشردة عادة ما تمتهن مهنتين مهنة التسوّل في النهار ومهنة الدعارة في الليل، فالكثير من الرجال يقعون في شباكها بعدما تلعب بعقولهم لفترة، ثم تقوم بسلب كل ما بحوزتهم من مال وهواتف نقالة، وإن لم تفلح معهم باللين تستعمل القوة، ولا مانع في استعمال السلاح الأبيض كالسكين مثلا، لكن نادرا ما يتم اللجوء إلى هذه الطريقة، بل فقط في حالة نفاد الصبر”. وأضافت بصوت خافت في مكان بعيد عن أنظارهن حتى لا يصل الكلام إلى مسامعهن، أنه في العديد من المرات، تحدث شجارات تصل بهن إلى مراكز الشرطة، وكثيرا ما تقع في حديقة صوفيا المعروفة بكثرة انتشار المنحرفين من كل صنف، حيث يدخلن في مناوشات كلامية تبدأ بتبادل الشتائم أمام الملأ لتنتهي بهن في كثير من الأحيان إلى تدخل عناصر الشرطة الذين تعوّدوا على مثل هذه التصرفات لاستعمالهن أثناء العراك كل الوسائل التي تشفي غليلهن كالتراشق بالقارورات الزجاجية أو اللجوء إلى العض حتى تسيل إحداهن دم الأخرى أو الخدش بالأظافر.
- التكفل بـ 136 متشردة خلال سنة 2010
- أكد وزير التضامن الوطني سعيد بركات لـ “الشروق” اليومي خلال زيارة قادته لأزقة وشوارع العاصمة تفقدا لحال المتشردين، أن مراكزه تكفلت بـ 492 متشرد خلال السنة الجارية، منهم 337 رجل و136 امرأة، بالإضافة إلى 19 طفلا، وأضاف أن هذه المراكز المقدر عددها بـ 76 تحتوي على أكثر من 1500 سرير للتكفل بهذه الشريحة. وبالنسبة لكيفية التكفل بالمتشردين قال بركات “الخطوة الأولى تتمثل في أخذ المتشردة للمركز، حيث يتم التكفل بها لمدة يومين يتم فيها تنظيفها وفحصها وتوجيهها، ومن ثم يتم اقتيادها للولاية التي تقطن بها قصد إدماجها في المجتمع”، وعن سبب امتناع بعض المتشردات عن المجيء إلى مراكز الاستقبال قال “لأن الكثيرات منهن يحبذن الحفاظ على كرامتهن، وفي الأخير كشف وزير التضامن أن مصالحه تفكر جديا في سن قوانين جديدة تضمن حماية هذه الشريحة من الاستغلال، خاصة النساء والمراهقات الموجودات في الشوارع واللواتي يتعرضن عادة إلى مضايقات واستغلال من طرف شبكات التسوّل.