-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بن نبي وبن باديس.. علاقة يلفُّها الغموض

محمد بوالروايح
  • 1492
  • 0
بن نبي وبن باديس.. علاقة يلفُّها الغموض

لم نقرأ لمن عايشوا أو تتلمذوا على مالك بن نبي والشيخ عبد الحميد بن باديس شيئا كثيرا عن علاقة أحدهما بالآخر، هل كانا صديقين لا تتجاوز علاقتهما حدود الصداقة؟ هل كانت بينهما غيرة مناطقية فزهد أحدهما في الآخر؟ هل كانا غريمين، اختار أحدهما منهج الإصلاح الديني واختار الآخر منهج الإصلاح الفكري فعاب كل منهما على غريمه سلوك المنهج الخطأ؟ هل جمعتهما هموم الوطن وفرَّقتهما اهتمامات كل واحد منهما؟
تساؤلاتٌ كثيرة يسألها المهتمُّون بسيرة الرجلين ولكنها لم تجد إجابات شافية وكافية إلى حد الآن فتحولت إلى علامات استفهام كبيرة، تنتظر من يفك لغزها ويجلي أمرها للأجيال لغرض تنوير الرأي العام وليس للتنقيب عن شواهد قابعة في التاريخ عن صراع محتمل بينهما يمكن أن يتخذ منه خصوم الجزائر مادة للطعن في سيرة الرموز والشخصيات الوطنية.
لعل أستاذي عمار طالبي -أطال الله في عمره- هو الوحيد الذي كشف النقاب عن فصل من فصول العلاقة بين بن نبي وبن باديس رحمهما الله، وذلك عندما تحدّث في حوار أجراه معه أخونا عبد الناصر بن عيسى عن المقدِّمة اللطيفة الظريفة التي قدّم بها مالك بن نبي لكتاب عمار طالبي “ابن باديس: حياته وآثاره” والتي نجدها مثبّتة في الكتاب وتحمل بالفعل مشاعر أخوية صادقة من مالك بن نبي للشيخ عبد الحميد بن باديس، ومما جاء في هذا التقديم: “إنه ناقدٌ اجتماعي وعالم محقق ومصلح وصوفي، ولا يفوتني أن أذكر أنّ غِنى هذه الذات ليس محصورا كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة، اللذين بعثا الحياة في فترةٍ ما من تاريخنا الوطني، وابن باديس مثقفٌ عاش مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة”.
هذا التقديم –في اعتقادي- رغم صِدق كاتبه وأمانة ناقله لا يقدِّم ولا يؤخر في شيء فقد تطغى المجاملة في بعض الأحيان على كاتب التقديم فيسترسل في ذكر الحسنات ويغضّ الطرف عن السيئات وخاصة إذا كانت حسنات أحدهما أكبر من سيئاته، وليست هذه شهادة زور ولا نفاقا كما يبدو لبعض مرضى القلوب لأن ما يكتب حقيقة واقعة وليست أمرا متوهما أو شيئا متكلفا. ما يرد في الكتب من تقاريظ في الغالب الأعمّ قد يخفي وراءه مواقف أخرى لا يريد كاتب التقديم أن يفصح عنها فليست هذه مناسبتها ولكل حادث حديث.
ما يمكن تأكيده عن العلاقة بين بن نبي والشيخ بن باديس رحمهما الله -رغم شح الكتابات- هي أنها كانت علاقة أخوَّة لأن الرجلين يجمعهما رابط الدين والوطن وحمل كلاهما همّ إصلاح المجتمع الجزائري كل على طريقته، ولكنها كانت في المقابل علاقة فاترة.
ما ورد في كتاب مالك بن نبي: “مذكرات شاهد للقرن” من خروج بن نبي غاضبا من مكتب الشيخ عبد الحميد بن باديس بسبب أنه لم يُعره اهتماما، لا يصحّ أن يكون دليلا على توتر العلاقة بين الرجلين لأن هذه الحادثة كانت –مع قياس الفارق- أشبه بحادثة عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه مع رسول الله صلى الله عليهسلمبد، ومن جهة أخرى فإنه لم تكن لبن نبي الشاب اليافع في ذلك الوقت، كما يعترف هو بنفسه في كتابه: “مذكرات شاهد للقرن” صلة مباشرة برجال الجمعية وبالشيخ الرئيس باستثناء الصلة التي كانت بينه وبين الشيخ العربي التبسي والتي لم تكن هي الأخرى مثالية في كل الأحوال وخاصة حينما ترتفع وتيرة النقاش بينهما حول منهج الإصلاح الذي ينظر إليه الشيخ العربي تبسي من زاوية وينظر إليه بن نبي من زاوية أخرى، بل إن العلاقة بين بن نبي والشيخ التبسي قد ساءت في بعض الأحياء كثيرا إلى درجة أن أصبح بن جلول الصنم –كما وصفه بن نبي- أكثر منهجية من العربي التبسي يقول بن نبي: “أصبح موقفي المناهض لابن جلول أكثر منهجية واشتدّ سوء تفاهمي مع العربي التبسي وأضحت عزلتي في تبسة تزداد لتبلغ أوجها”.
إن علاقة بن نبي بالشيخ بن باديس يمكن استشرافها مما دوّنه بن نبي في كتابه “العفن” الذي أسال حبرا كثيرا حول صحّة نسبته إلى بن نبي من عدمها. لا أريد العودة إلى الجدل حول صحّة نسبة كتاب “العفن” لبن نبي فحسبي ما كتبته قبل مدة حول هذا الموضوع في مقالي بـ”الشروق اليومي” بعنوان: “هل كتب مالك بن نبي كتاب العفن؟”.. ما يهمني هنا أوّلا وأخيرا هو استشراف علاقة بن نبي بالشيخ بن باديس أخذا من الكتاب المطبوع المتداول الذي نلمس فيه أسلوبا حادا لبن نبي في حديثه عن موقفه من بعض شيوخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وبأسلوب أقلّ حدة في حديثه عن الشيخ بن باديس الذي يصر على وصفه بـ”الشيخ المستنير”.
حينما يعلق بن نبي على أحداث قسنطينة سنة 1934م، فإنه يوجه إليه بعض العتاب بقوله: “حتى الشيخ ابن باديس الذي ظهر أثناء الأحداث العصيبة وهو متحلٍّ بشجاعة سامية، وبكرامة تامة، كان أبعد من أن يعي مغزى الأحداث، وأخيرا، ورغم أنفي فإن بن جلول رُفع إلى درجة الحكيم، والبطل الوطني رقم واحد”. ومن المعلوم أن بن جلول الطبيب كان مقرَّبا من الشيخ بن باديس وكان صاحب وجاهة ومن أعيان المدينة، وانتقاده أو وصفه بأنه “الصنم” و”الحكيم” و”البطل الوطني” بهذه الطريقة يعني تحميل بن نبي مسؤولية ذلك للشيخ بن باديس.

يقول بن نبيّ منتقدا الموقف الباهت لوفد الجمعية في “المؤتمر الإسلامي” الذي عُقد بباريس سنة 1936 بقوله: “لم يكن العلماءُ سوى جماعة مسكينة من الخانعين الفاترين، من غير اقتدارٍ يسمو بهم إلى مستوى الوضع، فقد كانوا يستظلون بعدالة الإله ويستكينون إليها لمواجهة الظلم الشرس الذي حاق بهم، فأي إنسان يدرك قيمة المبدأ السلفي أو لديه مجرد إلمام بسيط بالفلسفة السياسية، لا يمكن أن يفهم سفر هؤلاء العلماء إلى باريس ولا بالأحرى خضوعهم لبن جلول”.

تجلت بعض مظاهر التذبذب في علاقة بن نبي ببن باديس عندما قام الشيخ بإسناد مسائل جمعية العلماء بباريس للشيخ الورتلاني، إذ يعلق بن نبي على ذلك بقوله: “ويمكن أن يدرك الأثر النفسي عليّ وعلى بن ساعي الذي تركه الموقف الغريب للشيخ بن باديس رحمه الله، غير أن الشيخ خصّنا بمفاجأة أخرى؛ فعوض أن يتجه إلينا (وخاصة أنا الذي حملتُ لواء العلماء بباريس واقترحت اسم رئيسهم للرئاسة الشرفية لجمعية الطلبة الجزائريين زمن المرحوم نارون، قام الشيخ بإسناد مصالح جمعية العلماء بباريس للشيخ الورتلاني الذي كان ربما نجمه يسطع في صنعاء أو القاهرة حيث يمكن للكلمات البراقة والمفخَّمة أن تقوم مقام الأفكار ولكنها تعجز عن ذلك في بلد غربي يفرض ليس فقط معرفة دقيقة بخصوصياته ولكن يتطلب أفكارا واضحة ومضبوطة حول مشكلات المجتمع الإسلامي”.
لا يفضل بن نبي –كما اكتشفت ذلك– فيما كتبه عن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أن يصرح باعتراضه على اختيارات الشيخ بن باديس، ولكن ذلك يُفهم من السياق وخاصة حينما يكرر بن نبي الحديث عن السلطة غير العادية التي يتمتع بها بن جلول داخل جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وليس هناك من له مسؤولية مباشرة على بن جلول إلا الشيخ بن باديس، فبن نبي لا يوجِّه نقده للشيخ مباشرة وإنما يُدخله في عموم رجال الجمعية، ويقول منتقدا الموقف الباهت لوفد الجمعية في “المؤتمر الإسلامي” الذي عُقد بباريس سنة 1936 بقوله: “لم يكن العلماءُ سوى جماعة مسكينة من الخانعين الفاترين، من غير اقتدارٍ يسمو بهم إلى مستوى الوضع، فقد كانوا يستظلون بعدالة الإله ويستكينون إليها لمواجهة الظلم الشرس الذي حاق بهم، فأي إنسان يدرك قيمة المبدأ السلفي أو لديه مجرد إلمام بسيط بالفلسفة السياسية، لا يمكن أن يفهم سفر هؤلاء العلماء إلى باريس ولا بالأحرى خضوعهم لبن جلول”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!