الرأي

بين الثّورة والدّيمقراطية والانتخابات

ناصر حمدادوش
  • 1011
  • 10
أرشيف

لقد أصبح الاحتكام إلى الدّيمقراطية كآليةٍ معاصرةٍ لمعرفة إرادة الأمّة وقياس رأيها واستعادة سيادتها من المعلوم من الدّنيا بالضّرورة، وأنّ هذه النّظرة التوفيقية بين مبدئية الشّورى وآلية الدّيمقراطية هي من الاجتهاد الفكري والإبداع المعرفي والتجديد السّياسي الذي يجب أن نستند إليه، وخاصّة بعد هذا الانتقال الإيجابي من منطق الإطلاقية اللاّغية للآخر إلى منطق النّسبية القابِلة له.

ومع أنّه لا يوجد نظامٌ ديمقراطيٌّ مثاليٌّ، على اعتبار أنّ الديمقراطية اجتهادٌ بشريٌّ ناقصٌ وقاصِر، إلاّ أنّها أفضل ما توصّل إليه العقل البشريُّ في تنظيم الشّعب والسّلطة والدولة، وفي تجسيد إرادة الأمّة والتداول السّلمي على الحكم، وهو ما جعل الديمقراطية تختلف من دولةٍ إلى أخرى، وجعلها تخضع إلى عملياتِ تطويرٍ وتجديدٍ مستمرّة، ومنها: الانتقال من الديمقراطية التمثيلية إلى الديمقراطية التشاركية المباشِرة، وذلك لخطر القوّة والنّفوذ على التحكّم في نتائج الانتخابات، وهو ما جعل المطلبَ السّياسي والأساسي للثورات الشّعبية المعاصرة هو الحرّية والدّيمقراطية والكرَامة الإنسانية. إلاّ أنّ عملية الاستقراء الموضوعي لتجارب الانتقال الديمقراطي كشفت أنّ الثورات الشّعبية التي انتفضت ضدّ الأنظمة الديكتاتورية الفاشلة لم تختزل تلك الثورة في مجردِ البُعد الإجرائي والتقني للدّيمقراطية وهو الانتخابات، للفروق الجوهرية بين الديمقراطية كمبدأ والديمقراطية كإجراء، بل أعطت لعملية التغيير الحقيقي فرصته في الزّمان لكي تستوعب كلّ أبعاد التحوّل الديمقراطي، وذلك بالانتباه إلى جوهر الثورة الشّعبية وهو استعادة الأمّة للدولة المختطَفة بإرادتها الحرّة والفعلية عن طريق البناء الديمقراطي المتكامِل لتحقيق التنمية والنّهضة والحضارة، ويتمثّل هذا البناء الديمقراطي في: الدستور الديمقراطي، والاستقلال الفعلي للقضاء، وسيادة القانون، والفصل والتوازن بين السّلطات، وأجهزة الرّقابة والمحاسبة، والتعدّدية السّياسية الحقيقية، والإعلام الحرّ والمسؤول، والمجتمع المدني القوي، والمشاركة الشّعبية في الشّأن العام، والانتخابات الشفّافة والنّزيهة. وهو ما يجسّد الثقافة الديمقراطية بأبعادها المتكاملة وبأركانها المتعدّدة على مستوى الشّعب والطبقة السّياسية ومؤسّسات الدولة. وهو ما يعني أنّ الثورة الشّعبية ليست مجردَ ثورةٍ انتخابية، وأنّ الدّيمقراطية ليست مجرد انتخابات، وأنّ الانتخابات هي مجردُ ركنٍ واحدٍ من أركان الدّيمقراطية، وأنّها آخِرُ ما يتوّج هذا المسار التغييري وليس العكس.

إنّ التسرّع في الذّهاب إلى المنافسة الانتخابية بعد أيِّ ثورةٍ شعبيةٍ دون ترتيب الأولويات، مثل: التوافق الوطني بالحوار، وضمان الحرّيات، والإطار الدستوري والقانوني العادل، وعدم تسييس الجيش والقضاء والإعلام، والتسليم بالديمقراطية كآليةٍ لتسوية الخلافات السياسية، ستؤدّي بنا تلك الانتخابات الشّكلية والمرتبِكة إلى رِدّةٍ حقيقيةٍ على الثورة وعلى الدّيمقراطية نفسِها، بسبب هشاشة البناء الديمقراطي الجديد، وضعف أو انقسام أنصار الثورة والديمقراطية، ونفوذ وقوّة أعدائهما في الداخل والخارج، وسيكون من النتائج الحتمية لذلك أنّ هذه الشّرعيات التي تُبنى على أسُسٍ متسرّعة وعلى قواعد مخالِفة لسُنن التغيير الحقيقي ستكون عُرضةً للانقلاب السّريع عليها من طرف الثورة المضادّة أو من طرف القوّة المتغلِّبة وهي الجيش، وعادةً ما يكون للعامل الخارجي دورٌ خفيٌّ أو ظاهِرٌ في ذلك، ومن علامات تلك المقاومة للتغيير والممانعة للديمقراطية: ديكتاتورية الأقلية عبر الشّارع أو الخارج، والمقاربة الأمنية في حلّ الأزمة، وعدم خضوع السّلطة العسكرية للسّلطة السّياسية المدنيّة المنتخَبة.

لقد أثبتت تجاربُ الرّبيع العربي، وحالاتُ الرِّدّة عن الحرّية والديمقراطية، وعملياتُ عسكرة الثورات الشّعبية السّلمية أنّ مجرد القيام بالثورة الشعبية لن يحلّ كلّ الأزمات والمشكلات القائمة بتلك السّرعة المثالية المستعجِلة، وأنّ مشكلة الشعوب العربية ليست في مجرد الاحتكام إلى الانتخابات لتجسيد بعض المبادئ الدستورية مثل: الشّعب هو مصدر كلّ سلطة، وأنّه صاحب السّلطة التأسيسية، وأنّ السيادة الوطنية مِلكٌ للشّعب وحده، بل هناك مشكلاتٌ حقيقيةٌ وجوهرية متعلّقة بثقافة الدولة والديمقراطية والمواطنة، والتسليم بأنّ إرادة الشّعب وسيادته لا يمكن أن تعلوها أيُّ إرادةٍ أو سلطةٍ أخرى، سواء كانت سلطة عسكرية أو إيديولوجية أو خارجية، وأنّ الحلَّ الثوريَّ ليس في مجردِ تنظيمِ انتخابات، بل في كيفية التطوير الكياني والمؤسّساتي والدستوري للدولة، وشكل حيازة السّلطة فيها على الشّرعية الشّعبية. الأزمات الصّارخة تنطق بضعف الدولة، وغياب ثقافة الدولة، وأزمة شرعية السّلطة في الدولة، وترهّل ممارسة الحكم في الدولة، والفجوة بين الحاكم والمحكوم في الدولة بسبب الإدمان على رأس الفساد السياسي فيها وهو التزوير، الذي يجعل السّلطة غير الشّرعية عصابةً تختطف الدّولة من الأمّة، بل وتجعلها في معاداتها.

هذا ما يفرض علينا التحذير من خطر العقل المتكلّس، والذي يتغذّى من رصيد الفقه السّياسي المُرهَق، والذي أصبح عبئًا ثقيلاً لا مصدرًا ملهِمًا، والذي يعود إلى فِقْهنا السّياسي التاريخي في مجال الثورة على الظّلم، وتحديدًا إلى مذابح الأمويين في القرن الأول الهجري ضدّ معارضيهم، والتي زرعت في الأمّة روح التشاؤم الدّفين في الثقافة الإسلامية لتعطيل أيِّ جُهدٍ للإصلاح السّياسي الحقيقي مهما كان متعيِّنًا، وضاعف هذا التشاؤم: المعارضةُ المسلّحة للخوارج، التي استباحت المجتمعَ كلَّه بحجّة تخليصه من الجور السّياسي، وهكذا أصبح الخوف من الفتنة والرّعب من الدّم والمزايدةُ بالاستقرار هاجسًا نفسيًّا دائمًا وكابحًا عقليًّا مُعطِّلاً، يستبطنه العقلُ المسلم في كلّ الأحوال، وهو ما أدّى إلى تضحية العقل الفقهي بـالشّرعية السّياسية للحاكم، في مقابل المحافظة على وَحدة الأمّة الموهومة وعلى الأمن والاستقرار الموهوب، ويا لها من صفقةٍ خاسرة!. وهو الانحراف السّياسي الخطير، الذي وقع في الشقّ الدستوري للحضارة الإسلامية، عندما تمّ الانقلاب على الخلافة الرّاشدة، وانتقلت شرعية الحاكم من إرادة الأمّة عبر الشّورى والحرّية في الاختيار والرّضا في التعاقد السياسي بين الحاكم والمحكوم -كما كانت عليه الدّولة في المدينة المنوّرة- إلى الحُكم الوراثي والسّلطة الجبرية والمُلك العضوض، وقد صدقت النّبوّة في غيب المستقبل بالحديث الشريف الذي رواه الإمام الترمذيّ وصحّحه الألبانيُّ عندما قال صلّى الله عليه وسلّم: “الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم مُلكٌ بعد ذلك.”.

وبدل أن ينصبّ جهدُ فقهائنا على مقاومة فتنة الاستبداد وجريمة خروج الحاكم عن إرادة الأمّة بالتزوير، فقد صدّعوا رؤوسنا بالتحذير من خطر خروج الأمّة عن الحاكم خشية الفتنة، وأعطوا للسّلطة غير الشرعية حقوق السّلطة الشرعية في الطّاعة، ولم يميّزوا بين الطاعة الواجبة للحاكم الشرعي وطاعة المُكرَه للحاكم غير الشّرعي، ولم يفرّقوا في التعامل بين سلطة الأمر الواقع والرّضا بالاستبداد كحالةٍ مؤقتة، وواجب الجهاد السّياسي المدني للحاكم الظّالِم كحالةٍ تعبّديةٍ دائمة، وهو أعظم أنواع الجهاد في الإسلام، كما جاء في الصّحيحين: “أعظم الجهاد كلمةُ حقٍّ أمام سلطانٍ جائر.”. لقد تعمّدت القوى الغربية المنافِقة والأنظمة العربية التقليدية إيصال مسارات الثورات الشعبية السّلمية إلى حالات الانسداد والفوضى، لخديعة الجميع وتخييرهم بين أولوية الأمن والاستقرار وأولوية الحرّية والديمقراطية، وكأنهما شيئان متناقضان ووجب الاختيارُ بينهما، مع أنّ الحقيقة التاريخية تنطق بأنّه لا أمن بلا حرّية، ولا استقرار بلا ديمقراطية، ولا تنمية بلا شرعية، ولا نهضة بلا مشروعية، ولا حضارة بلا تناغمٍ بين الدولة وإرادة الأمّة.

مقالات ذات صلة