-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين عباءة الحركة الإسلامية ومِعطف الحزب المدني

ناصر حمدادوش
  • 767
  • 0
بين عباءة الحركة الإسلامية ومِعطف الحزب المدني

لقد كان واجبُ الوقت بعد السُّقوط الرَّسمي للخلافة الإسلامية سنة 1924م هو تأسيس الحركة الإسلامية المعاصرة كآليةٍ من آليات حِفظ الفكرة الإسلامية الخالدة، انسجامًا مع النَّص القرآني وعملاً بالتكليف الرَّباني في قوله تعالى: “ولتكن منكم أمَّةٌ، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون.” (آل عمران:104)، وهو ما قامت به في “مئوية الصَّحوة” في محاولات استدعاء الإسلام إلى حياة الناس، حتى أصبح التديُّن ظاهرةً اجتماعية لدى الشعوب تجاوز -كَمًّا ونوْعًا- التديُّنَ الحَرَكي والقدراتِ التنظيمية للحركة الإسلامية، وهو ما يُعدُّ إنجازًا استراتيجيًّا في الحفاظ على القيم الإسلامية وترسيخ الهوية الدينية وعودة الشعوب إلى جذورها التاريخية والاعتزاز بأبعادها الحضارية .

إلاَّ أنَّ تجربة الحركة الإسلامية الدعوية على مستوى الجماعة والمجتمع تختلف عن تجربتها السِّياسية على مستوى الدولة والنَّهضة والحضارة، وهو ما يفرض واجب التوقُّف عن هالةِ القداسة والنظرةِ المثالية إلى الحركة الإسلامية لأنها ليست هي الإسلام، وبالتالي فهي ليست منزَّهةً عن النَّقد والمراجعة.

تعيب بعضُ الحركات الإسلامية على الأنظمةِ السياسية بأنها أنظمةٌ استبدادية مركزية وشمولية، بينما لا تنتبه إلى نفسها أنها لا تزال جامدةً ولعقودٍ من الزَّمن- على تنظيمٍ شموليٍّ مركزي ومحوري، وعلى نزعةٍ تميل إلى شخصنة الأفكار والخيارات باسم شرعية القيادة ورمزية القائد وقدسية المنصب.

لقد أرسى المنهجُ القرآني ثقافةَ النقد والمراجعة في التجربة السياسية والدعوية للعهد النبوي، وهي أرقى وأنقى التجارب البشرية على الإطلاق، ففي قمَّة عطاء وتضحية الصَّحابة، وهم في أخطر مراحل التدافع وأشدّ مآزق الهزيمة في غزوة أُحُد، تساءلوا عن سبب الانكسار، فقالوا: “..أنَّى هذا؟”، فأجابهم القرآنُ الكريم بكلِّ صراحة: “.. قل هو من عند أنفسكم.” (آل عمران:165)، وفي المشهد الخفيِّ بعد النَّصر في غزوة بدر كشف خبايا نفُوسِهم ونشرَها قرآنًا يُتلى إلى يوم القيامة، وقد تحرَّكت فطرتُهم البشرية لتمتدَّ إلى حظوظ الدُّنيا، فقال تعالى عنهم: “منكم مَن يريد الدنيا ومنكم مَن يريد الآخرة ..” (آل عمران:152). وعندما ساءت أخلاقهم وتنازعت إراداتُهم على الغنائم سجَّلها عليهم بدون مواربة، فقال تعالى: “.. فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ..” (الأنفال:01)، وهو ما يعني أنَّ من أسباب الإخفاق والانكسار العوامل الذاتية التي لا يجوز تعليقُها على مشجب العوامل الخارجية، وأنَّ نقاء الصفِّ لا يعني خُلوَّهِ المطلق من تعلُّق البعض بالدُّنيا، وأنَّ قدسية المنهج لا تعني بالضَّرورة عدم وقوع التنازع والانقسام فيه.

مفارقاتٌ بين الأنظمة السِّياسية والحركات الإسلامية:

– تعيب بعضُ الحركات الإسلامية على الأنظمةِ السياسية بأنها أنظمةٌ استبدادية مركزية وشمولية، بينما لا تنتبه إلى نفسها أنها لا تزال جامدةً ولعقودٍ من الزَّمن- على تنظيمٍ شموليٍّ مركزي ومحوري، وعلى نزعةٍ تميل إلى شخصنة الأفكار والخيارات باسم شرعية القيادة ورمزية القائد وقدسية المنصب.

– تعيب بعضُ الحركات الإسلامية على الأنظمةِ السياسية عسْكَرتها واختطاف الدولة من الأمَّة، وهي تقع في مستنقع عسكرة هذه الحركات، بهيمنةِ نخبةٍ قيادية على القرارات، والتي قد تكون مرتهنة إلى طموحاتٍ شخصية أو مرتبطة بجهاتٍ غير مؤسَّسية، فتُسيَّر بأجندات التحكُّم لا بمدئية التحكيم.

– تطالب بعضُ الحركات الإسلامية الأنظمةَ السياسية بالنظام البرلماني، لأنه الأقربُ إلى التمثيل الشعبي وإلى الفصل بين السلطات وإلى تعزيز الرقابة على الجهاز التنفيذي، ولا تتمثُّل ذلك في تنظيمها الهيكلي، إذ تتحوَّل مجالسها الشورية إلى مؤسَّسات شكلية، عددًا ونوْعًا، فلا يظهر لها وجودٌ إلاَّ في الاستحقاقات التنظيمية أو الانتخابية، مع ضعف سلطتها الرَّقابية والمحاسباتية للقيادة التنفيذية، وترهُّل آلياتها في صناعة القرار واتخاذه إلا وفق الإرادة الفوقية.   – تعيب بعضُ الحركات الإسلامية على الأنظمةِ السياسية عدم التزامها بمعايير الحكم الراشد، مثل: الديمقراطية والشفافية والمحاسبة والرقابة واستقلالية القضاء وسيادة القانون، ولكنها تفتقر هي الأخرى إلى أبسط هذه المعايير تنظيميًّا، إذ لا تزال عاجزةً عن فرض سيادة اللوائح ومعايير الانضباط، ولا تزال غارقةً في السِّرية والغموض والانعزالية والاستعلائية والتمركز على الذات والإيديولوجية الضيِّقة، ممَّا جعلها جماعةً طائفيةً منغلقة على نفسها ومنعزلة عن جماهير أمَّتها.

– تطالب بعضُ الحركات الإسلامية الأنظمةَ السياسية بالتداول السِّلمي على السُّلطة والتحرُّر من الشرعية التاريخية والانعتاق من الإرث المثخن بالصراعات بين أركان النظام والمثقل بالثارات القديمة بين أجنحة السلطة، ولا تنتبه بعضُ قيادات هذه الحركات الإسلامية إلى أنها تقتات   – هي كذلك – من إرث الشرعية التاريخية الحركية، وتتغذَّى من رصيد فضل السَّبق، وتستأسد على الأجيال برمزية التأسيس، وتفرض نفسها بمنطق السلطة الأبوية، وتحتكر المشهد القيادي كحقٍّ إلهي أبدي لا يقبل التداول، وترسم تلك الصورة السوداوية في العلاقات المتوترة بين قياداتها التاريخية، فهي غارقةٌ في مستنقع الماضي، فلا تحسُّ لها من أثرٍ ضمن فاعلية الحاضر، ولا ترْقُب لها استشرافًا لآفاق المستقبل.

– تطالب بعضُ الحركات الإسلامية الأنظمةَ السِّياسية بحرِّية الرأي والفكر، وتحرص على تقديم الدروس في التجديد والتطوير والإبداع والابتكار، وحتمية مواكبة التقنية والتطوُّر الرقمي والانفتاح على العالم، وهي تضيق ذرعًا بالرأي المخالف داخلها، ناهيك عن الرأي المخالف من خارجها، وتأبى إلا نمذجة العقول والنفوس، وفرض السيطرة الأبوية والوصاية الفوقية على الأجيال الصَّاعدة، وتحويل بعض الأدبيات إلى مسلَّماتٍ لا تقبل المراجعة، وبعض القيادات ككهنةٍ للمعبد لا تقبل النقد، وبعض الأفكار إلى وحي لا يقبل التجديد، وبعض الوسائل والأشكال التنظيمية إلى مسائل توقيفية لا تقبل التغيير.

– تطالب بعضُ الحركات الإسلامية الأنظمةَ السياسية بتمدين النظام ومدنية الدولة بخضوع المؤسَّسات العسكرية إلى السُّلطة السياسية المدنية، وتغفل هذه الحركاتُ الإسلامية عن خطورة التكوين الديني التقليدي لمناضليها، ولا أقلُّها خطورة: مسألة البيعة التنظيمية، وهي عند بعض الحركات الإسلامية بيعةٌ عابرة للقارَّات والدساتير والقوانين بما يمسُّ بسيادة الدول واستقلالية التنظيم وحرِّية القرار، وهي البيعة المعيارية في الهيكل التنظيمي وسُلَّم القيادة، وإنْ كان لها تأصيلٌ شرعيٌّ عند الحركة الإسلامية كجماعةٍ دعويةٍ وتربوية، فإنها لا تنسجم مع طبيعة الحزب السِّياسي المدني وانفتاحه على كلِّ مكوِّنات المجتمع، وهو الذي يسعى إلى الوصول إلى الحكم عبر الديمقراطية وآليتها الانتخابية وفق الإرادة الشعبية.

معطف الحزب السِّياسي المدني:

تعيش الحركة الإسلامية مرحلةَ انتقالٍ تاريخيٍّ في مسيرة الاستئناف الحضاري، وهي بحاجةٍ عاجلةٍ إلى التجديد في مجالات العمل الأساسية على مستوى الخط السياسي في الوظيفة الفكرية والسياسية، وعلى مستوى الخط الاستراتيجي في الوظيفة الاجتماعية والمجتمعية، وذلك بتجديد الرؤية الفكرية والسِّياسية ومقارباتها في الإصلاح والتغيير، وما يتناسب معها هيكليًّا وتنظيميًّا، وهو ما يفرض استحقاق تأسيس الحزب السِّياسي المدني المكلَّف بخوض معركة الحرِّيات والديمقراطية والتنمية، ونقل الفكرة من المجتمع إلى الدولة، وقيادة مشروع النهضة والحضارة، وهو ما يعني أنَّ القيادة ستكون للسِّياسي وليس للدعوي.

سيختلف هذا الحزبُ السِّياسي المدني عن الحركة الإسلامية في التسمية المنسجمة مع أولوية المرحلة، وفي مواصفات القيادة ومؤهلاتها، وفي الهيكل الإداري والتنظيمي وشروط العضوية، وفي منظومة التكوين والتدريب والتأهيل المتخصِّص، وفي الرُّؤية السِّياسية والاقتصادية ومفردات الخطاب، وفي البرامج التفصيلية القطاعية والتنموية، وفي مدى السِّيادة والاستقلالية وآليات اتخاذ القرار، وفي أدوات ووسائل ومحاور النِّضال، وفي نوعية الكوادر البشرية النِّضالية في المجتمع وفي المجالس المنتخبة وفي مؤسَّسات الدولة..

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!