الرأي

تألّق علمائنا… وتفاخر وكالة الأنباء؟!

ح.م

كانت جائزة الاتحاد الأفريقي للامتياز العلمي “كوامي نكروما” لعام 2017 من نصيب باحثيْن اثنين، أحدهما الباحث الجزائري في التكنولوجيا النانوية مليك معزة على ما بذله من جهود في سبيل ترقية العلوم والبحث في القارة الأفريقية. وقد استلمها الفائز في نهاية شهر جانفي الماضي في العاصمة الإثيوبية خلال جلسة افتتاح القمة الثلاثين لرؤساء دول الاتحاد الأفريقي. وهو نبأ لا شك قد أسعد كل الجزائريين حتى لو أن وسائل الإعلام لم توليه الأهمية التي يستحقها.

من جنوب إفريقيا

أوردت وكالة الأنباء الجزائرية الخبر وفصلت في بعض جوانبه، وذكرت فيما ذكرت، أن وزيرنا الأول الذي كان حاضرا في المؤتمر قد هنأ الفائز. وقدمت الوكالة مليك معزة على أنه مفخرة للجزائر مبرزةً قوله، ضمن تصريح له بهذه المناسبة، أن << تكريمه بهذه الجائزة سيحفزه على بذل المزيد من الجهد وتكوين باحثين شباب في الجزائر وإفريقيا>>.

وأشارت وكالة الأنباء أيضا إلى أن الباحث يزور << المراكز الجامعية الجزائرية ومراكز البحث الأخرى… مُشيدا في هذا الصدد بسياسة البحث التي تنتهجها الجزائر التي تشجع، حسبه، الجامعيين على انجاز أعمال بحث>>. وفي نفس الوقت، تقول وكالة الأنباء إن الباحث << أوضح أنه رحل إلى جنوب أفريقيا لإجراء أبحاثه هناك نظرا للظروف والوسائل التي يتيحها هذا البلد للباحثين والجامعيين>>. وبحثنا كثيرا عما إذا كان الباحث قد استقر خلال مرحلة معينة في الجزائر بعد تخرجه فلم نجد ضالتنا.

والسيد مليك معزة رحل في الثمانينيات، بعد أن درَس الفيزياء في جامعة وهران، إلى جامعة باريس السادسة ونال هناك شهادة الدكتوراه في علم البصريات، وعمل في عدة بلدان حتى حطّ به الرحال في جنوب إفريقيا حيث يعمل في مخبر تابع لمؤسسة البحث القومي في ذلك البلد. وقد نال العديد من الاستحقاقات العلمية العالمية، مما يدل على جدارته وأهمية أبحاثه.

هناك عدة تساؤلات يمكن طرحها في هذا الموضوع، نكتفي بالبعض منها. فمن جهة يصرح باحث من هذا الطراز بما يؤكد أن سياسة البحث العلمي في الجزائر مشجعة في حين تشير الدلائل إلى أن سلبياتها أكثر من إيجابياتها. وقد عجز المسؤولون عن معالجتها.

السبيل إلى النهوض

نذكر على سبيل المثال ما حدث عام 2010-2011 عندما فتحت المديرية العامة للبحث العلمي لمن هبّ ودبّ الباب لتقديم مشاريع بحث وطنية، فكان عدد المقبول منها بالمئات وفي جميع التخصصات. ثم وُزعت على كل المشاريع نفس المبلغ المالي! وكان ذلك خطأ فادحا في تسيير الأموال أضر بمشاريع كانت جادة لكنها تحتاج إلى اقتناء معدات كبيرة لا يغطي المبلغ إلا جزءا ضئيلا منها. وبالموازاة مع ذلك مُنحت لمشاريع أخرى اعتمادات لا حاجة لها بها. فهذا سوء تسيير مالي كان صارخا.

ثم إن العيب الآخر تمثّل في أن تكون تلك المشاريع بمدة سنتين لا أكثر! وأي مشروع بحث وطني جادّ يمكن إنجازه في ظرف سنتين، إلا ما شذّ؟ ومن الأخطاء الأخرى أيضا فتح كمّ معتبر من المخابر في بداية الألفية وأُغدقت عليها الأموال للنهوض بالبحث، وهذا أمر نتفهّمه. ولما كان مسؤولونا يحاججوننا دوما بالكمّ متغاضين عن النوعية تقرر بعد ذلك أن يُضاعف عدد المخابر.

ولسوء الحظ (أو لِحُسنه) حلت بنا مرحلة التقشف، وتراجع المسؤولون عن قرارهم، بل صاروا الآن يدقّقون في التمويلات ويجمدونها للمخابر المتقاعسة، ويسألون غيرها ما إذا كانت الأبحاث المنتجة لها وقع على الحياة الاقتصادية والاجتماعية؟! وإن كان الجواب عن هذا السؤال سلبيا أو مترددا أوقف التمويل. تلك هي عيّنة من سياسة البحث العلمي في الجزائر التي تسيّر بدون رؤية واضحة. فكيف يحكم عليها الباحث مليك معزة بأنها مشجعة؟

من جانب آخر، بماذا نفتخر نحن من داخل البلاد كمسؤولين؟ هل نفتخر بأننا كوّنا أمثال الباحث مليك معزة؟ أو نفتخر بكوننا لم نوفّر له الظروف المواتية ليعود إلى بلده ليجري فيها الأبحاث التي يجريها الآن في بلد يُسمى جنوب إفريقيا يعرف نهضة حقيقية؟ ليتذكّر هنا المتذكّرون كيف كانت جنوب إفريقيا تحت ظلام الأبّرتايد عندما كانت الجزائر الصاعدة تأوي مناضليها!

ماذا قدم المسؤولون عن الجامعات لهؤلاء العلماء ذوي الأصول الجزائرية ليكونوا أكثر تعاونا مع منشئات بلدهم الأم؟ كيف يقدّم هؤلاء المسؤولون المأمول منهم وقد عُيّنوا في مناصبهم عموما ليس لكفاءتهم العلمية ولا التسييرية بل لكفاءات أخرى. إذا كان الكثير يفسر نزوح جلّ كفاءاتنا في التسعينيات إلى الخارج لأسباب أمنية فكيف يفسّر المسؤولون اليوم مواصلة هذا النزوح رغم أننا تجاوزنا ظروف التسعينيات الرهيبة؟

ليس سرًا بأن الوضع الحالي للجامعة والبحث العلمي عندنا ليس بخير، والتردي يزداد استفحالا. يحدث ذلك وللبلاد إمكانيات ممتازة لا تتوفر لدى العديد من البلدان الأخرى. وتتمثل تلك الإمكانيات بصفة خاصة في وجود مئات الباحثين اللامعين في جميع الاختصاصات من بني جلدتنا، وهم منتشرون خارج البلاد. منهم المتقاعدون، ومنهم العاملون الشباب والشيوخ.

كما أن للبلاد إمكانيات مادية لاستقطابهم في مجال التعاون العلمي بأشكال مختلفة. وما يدعم ذلك أن سياسة البلاد رغم نقائصها الكثيرة في مجال التعليم قد أدت إلى توفير هياكل ومرافق وتجهيزات لم نكن نحلم بها في القرن الماضي. وفضلا عن ذلك، ورغم كل ما يقال في شبابنا، فضمن العدد الهائل من الطلاب الذين يعمرون الجامعات، هناك مئات منهم جادّون في طلب العلم وسوف يلمعون ويتميّزون عالميًا لو يتوفر من يأخذ بأيديهم في المؤسسات الجامعية عبر الوطن. ومن ثمّ، نرى أن ظروف نهضة علمية حقيقية متوفرة في الميدان، لكنها غائبة في الإرادة السياسية.

هل يجوز لنا أن نكتفي مع وكالة الأنباء الجزائرية بالتباهي بكون هذا الجزائري أو ذاك المقيم في الخارج قد برز في مجال اختصاصه ونال الجوائز العالمية؟ هذا لا يفيد البلاد في شيء بل من شأنه أن يزيد في تمويه القضية المركزية وإخفاء المشكل الحقيقي الذي تعاني منه الجامعة والبحث العلمي.

مقالات ذات صلة