الرأي

تبعات تغييب الإجماع في صناعة الدستور

حبيب راشدين
  • 1446
  • 5
ح.م

تبدأ اليوم الحملة الرسمية حول الاستفتاء على تعديل الدستور بانقسام واضح بين مكونات الطبقة السياسية كما بين بقية مكونات الرأي العام، باصطفاف أغلب الأحزاب السياسية ذات المرجعية الإسلامية خلف الدعوة إلى مشاركة واسعة في الاستفتاء مع التوصية  بالتصويت السلبي، يقابله اصطفافٌ مماثل لمكوِّنات الأغلبية الرئاسية السابقة (جبهة التحرير والتجمع وتاج) يدعو إلى تزكية المسودة التي سبق لهذه الأحزاب تمريرُها داخل البرلمان، في مشهد متميز تجاوز الإجماع المزيف الذي أنتج دستور 89 ونسخته الثانية في استفتاء 1996، وأخفق في بناء إجماع ديمقراطي بديل.

الانقسام لم يصدر عن خلافات حول مضامين الدستور الخاصة بإعادة توزيع السلطات بين مؤسسات الحكم الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولا على طبيعة نظام الحكم شبه الرئاسي، ولا حتى على ما ثُبِّت في النسخة من تعديلات سابقة كانت متَّهمة منذ تعديلات 2016 بصناعة لغة رسمية ثانية للبلد، بل برز الخلافُ أساسا حول ما تتهم به الأحزاب الإسلامية “مسودة لعرابة” بـ”العلمنة الزاحفة” على دستور البلاد، ومن خلاله علمنة مؤسسات الدولة، يأتي على رأسها: تثبيت حياد المدرسة على منهاج مدرسة جول فيري الفرنسية، وتثبيت حرية المعتقد والعبادات، في بلدٍ لا وجود فيه لأقلياتٍ دينية تُذكر، وأخيرا منح العلوية للمعاهدات الدولية على التشريع المحلي.

الفريقُ المؤيِّد الذي يرافق الحكومة في الدعوة إلى تزكية المسودة صرف النظر عن هذه المضامين، التي خرجت بها لجنة لعرابة عن نص وثيقة التكليف التي حرَّمت عليها الخوض في ملفات الهوية، لتركز على المحتوى الإيجابي في المسودة، في مجال توسيع هامش الحريات السياسية والإعلامية، وتعزيز استقلالية القضاء، وإعادة توزيع الصلاحيات بين مؤسسات الحكم الثلاث بقدر من التوازن، وأخيرا تقييد العهدات بمواد صارت صمّاء غير قابلة للتعديل.

فريق ثالث، أغلبه من الأحزاب الجهوية الموصوفة بالعلمانية، اختار الدعوة المحتشمة إلى المقاطعة، وهو يُضمر في الخفاء تصويت الأغلبية بـ”نعم”، على مسودة يعتقد أنها وهبت له من دون قتال أفضلَ الممكن، الذي يُبقي على فرص تثبيت المحتوى العلماني تدريجيا في العمل التشريعي القادم، ويمنح الأقلية العلمانية أكثر من فرصة للمشاغبة بالمتشابه من مواد دستور قابلة للتأويل، وفي كل الأحوال فقد امتنع هذا الفريق حتى الآن عن صياغة موقفٍ مؤسَّس حول مضامين الدستور، وقد يخرج علينا خلال الحملة بموقف يترك فيه حرية التصويت لأنصاره.

ولأننا أمام مشهد جديد، بأحزاب من الفرق الثلاث قد فقدت الكثير من تأثيرها، متهمة بالشراكة في ما نُسب إلى فترة الرئيس السابق بوتفليقة من فساد وإفساد، ولأن البلد قد خرج من حَراك شعبي متعدد الهوى، ومخترَق في أكثر من موقع، فليس من السهل استشراف موقف الأغلبية الصامتة، التي لم تُمنح فرصة للتعرُّف على أكثرية مضامين التعديل، وكانت لجنة لعرابة قد فشلت في تسويق المسودة، كما لم تبذل الحكومة، المنشغلة بأزمة كورونا، أيَّ جهد لتقريب محتوى التعديلات من فهم رأي العامَّة من الناس، خاصة فيما يتصل بمواد الهوية التي عبثت فيها لجنة لعرابة بالطول والعرض، وكانت المحفز الأول لقيام موقف موحَّد للأحزاب الإسلامية، ولكثير من كبرى جمعيات المجتمع المدني وعلى رأسها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

تخصيص ثلاثة أسابيع فقط للحملة الرسمية مع تقييد هامش التمثيل بمشاركة الأحزاب المعتمدة وبعض الجمعيات والشخصيات المختارة، لن يكون كافيا لتضييق الفجوة بين الفريق الداعي إلى إسقاط المسودة ومن يدعمها جملة وتفصيلا، وسوف نخرج لا محالة من الحملة بذات المواقف المعبَّر عنها من قبل، لنرث في أحسن الأحوال دستورا مطعونا فيه مسبقا من جهة افتقاره الواضح إلى الإجماع، وربما لاحقا من جهة المشروعية إذا ما أخفقت الحملة في إقناع كتلة وازنة من الناخبين بالمشاركة.

بعيدا عن هذا الاصطفاف الإيديولوجي الذي أعادنا ثلاثين سنة إلى الوراء، والذي قد يمنح فرصة لعودة التشدُّد العقائدي، لم تف التعديلات بما وُعد به الجزائريون بشأن بناء جمهوريةٍ جديدة، وقد تكون، بعد المصادقة عليها، أكبر معوق لبرنامج الرئيس الإصلاحي، الذي يحتاج إلى جبهةٍ داخلية موحدة، مؤمَّنةٍ من الصراعات العقائدية القابلة للركوب، والتي خُرِّبت من قبل دول ربيع الشعوب.

مقالات ذات صلة