-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تراجعٌ آخر للغرب مِن جُزر سليمان

تراجعٌ آخر للغرب مِن جُزر سليمان

تقوم سياسة الغرب الليبرالي منذ أزيد من نصف قرن على مَبدأَي الفعل والاستباق. كل العالم إنما يقوم بِرَدَّات فعل تجاه القرارات الغربية إن كانت اقتصادية أو عسكرية أو سياسية. كانت البداية الفعلية للتحكم في زمام المبادرة مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي عندما غزت موجة الانفتاح والتحول نحو الديمقراطية الليبرالية كل العالم.

تحولت أوروبا الشرقية نحو الغرب وتفكك حلف وارسو في 1991 وتم تقسيم يوغوسلافيا. وعرفت بلدان الجنوب ما يشبه الثورات الديمقراطية بالانفتاح على التعددية الحزبية والنظام الليبرالي ولو شكليا. وتم إقحامها في صراعات داخلية لا حدود لها. ولم تتمكن سوى دولة واحدة من التكيف مع هذا التحول الكبير في العالم ومن دون خسارة تُذكر وهي الصين. تم كل هذا والغرب الليبرالي يبدأ الحروب وينهيها بطريقته، يحقق المكاسب تلوى الأخرى ويتحكم في العالم كما يريد. يُخضِع دول الخليج العربية باسم الحرب على العراق وإيران، ويُخضِع آسيا الوسطى باسم الحرب على الإرهاب، ويتحكم في رقاب باقي الدول العربية باسم ثورات الربيع العربي، ولا يترك أي مجال للتحرر المستقل لكافة شعوب العالم النامي باسم ضرورة الاندماج في العولمة والخضوع لمتطلبات السوق الغربية العالمية.

بكلمة واحدة كان الغرب الليبرالي بقيادة الولايات المتحدة هو من يبادر إلى الفعل وما على البقية سوى القيام بما استطاعوا من ردود أفعال. وسَمَّى مُنَظِّروه ذلك “نهاية التاريخ” و”انتصار الديمقراطية الليبرالية كأفضل نموذج للإنسانية جمعاء”. وبات وكأن “نهاية التاريخ” قد باتت واقعا لا شك فيه. وتشجعت كثيرٌ من القوى المحلية على رفع شعارات مناهضة للتقاليد والأديان، وجاهرت برفض كل ما هو محافظ أو محلي أو غير متطابق مع المنظور الغربي الذي أصبح يتحكم في العالمين الحقيقي من خلال السياسة والقوة، والافتراضي من خلال شبكات التواصل الاجتماعي ومختلف الوسائط.. وكاد اليأس من إمكانية فعل مضاد يتحكم في الجميع… حتى جاءت كورونا ولحقها اتخاذ قرار العمليات العسكرية الخاصة في أوكرانيا. وكانت نقطة التحول التاريخية التي طال انتظارها. لقد انتقل الغرب الليبرالي لأول مرة من موقف الفعل إلى ردّة الفعل خلال جائحة كورونا بالأمس وأثناء الحرب في الدونباس اليوم. إنه الآن يتردد، وينقسم، ويخشى قرارات أخرى مماثلة من الصين ومن دول خليجية تمتلك سلاح الطاقة كانت بالأمس تحت رحمته، ومن دول أخرى أصبح بإمكانها الإفصاح عن تحالفات جديدة.

ولم يطل الانتظار كثيرا حتى برز مؤشرٌ آخر على هذا التحول، وهذه المرة من جزر سليمان. لقد تحدَّت الصين استراتيجيا الحلف الأمريكي “أوكوس “AUKUS  بين بريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا ووقَّعت اتفاقا أمنيا واسعا مع دولة جُزر سليمان في 19 أفريل الجاري… وها نحن اليوم نشهد بوضوح كيف انتقل الحلف الغربي إلى موقع ردة الفعل وأصبح يهرول نحو دفع جزر سليمان والصين للتراجع عن هذا القرار، واعتبرته المعارضة الأسترالية “أسوأ فشل للسياسة الخارجية الأسترالية في المحيط الهادئ منذ 80 عاما”. وها هو الحلف الغربي اليوم يسعى للتكيف مع الأوضاع إلى أن يعلم بعد قليل أن الصين ستتخذ قرارا آخر مع تايوان في نطاق استعادة السيادة على كافة إقليمها الوطني، وهنا سيفقد القدرة على المبادرة بالفعل وسيفقدها بعد ذلك تدريجيا في بقية العالم. ومن شأن هذا الوضع أن يُمكِّن الكثير من الشعوب التي عانت من هيمنة الغرب الليبرالي طيلة قرون أن تبدأ مرحلة تحرُّر جديدة. وبلادنا في موقع يؤهِّلها لذلك، إن لم يعطِها موقع الريادة في محيطها الإقليمي كما حدث خلال مرحلة التحرُّر الأولى… وتلك مساحة أخرى للأمل.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!