تسامُحنا.. وتعصّبهم
يزعم كثير من الغربيين أنهم متسامحون دينيا، وغير عنصريين عرقيا، ولكن ذلك قولهم بأفواههم، لا يصدّقه تاريخهم، وتكذبه أدبياتهم، وترفضه نفسيتهم، وهذا ما يقرّه ويصرّح به بعض المنصفين والموضوعيين من مثقفيهم وعلمائهم. فهاهو العالم الأمريكي كافين رايلي يؤكد في كتابه “الغرب والعالم” “أن التعصب سمة قوية من سمات الثقافة الغربية”. (ج.1.ص 202).
-
إن النتيجة الطبيعية للتعصب هي كراهية “الآخر”، واحتقاره، والكيد له، والتربص به، والتآمر عليه، وهذا كله يؤدي إلى العنف، والتدمير، وشن الحرب، والقتل الجماعي، وهذا هو الطابع العام للتاريخ الأوربي، بحيث “أن الجنس البشري – كما يؤكد عالم الاجتماع الألماني جيرهارد أرمانسكي- لم ينتج قدرا من الطاقة التدميرية كالقدر الذي أنتجه في أوربا، فالعنف لايوجد على هامش ماضي أوربا وحاضرها؛ ولكنه يمثل عنصرا من عناصر الثقافة الغربية (1)”، وقد تجسد هذا العنف في تلك الحروب التي شنّت عبر القارات، وآخرها الحربان العالميتان، وفي إبادة أمم وشعوب بأكملها.
-
إن المسلمين هم من هذا “الآخر” الذي يعاديه الغرب، ويضمر لهم الشر، ويودّ التخلص منهم، لأن هؤلاء “المسلمين أعداء المجتمع المسيحي الطبيعيون، وعليه ينبغي أن يحاربوا ويطردوا مثلما يحارب المجتمع المتمدن الأشرار ويعاقبهم (2)”.
-
إن هذا الـ “پيير” صريح، وغير منافق، فجهر بما في قلبه، وأعلن عن مخبوء نفسه، وهو – في رأيي- يعبر عن الأكثرين من الغربيين، الذين قد تضطرهم الظروف إلى أن يقولوا بأفواههم كلاما “طيبا”، وماهو في الحقيقة إلا من باب “يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم”. ويؤكد هذا “العداء الطبيعي” ما شهد به المؤرخ الأمريكي سالف الذكر، وهو “أن الحروب الصليبية لم تكن مجرد حوادث وقعت فيما بين القرنين الحادي عشر والرابع عشر.. وأن الماضي يقدم لنا نماذج يجتذبها الحاضر دائما، والحرب المقدسة من أقوى موروثات ماضينا المسيحي الغربي، إننا نحب أن نرى حروبنا كمغامرات مقدسة.. إن كلماتنا لا علاقة لها بأفعالنا.. والثقافة دائما هي التي توجه العدوانية في أشكال شتى، وقد عمد مجتمعنا الغربي إلى توجيه عدوانيتنا إلى وجهات دينية وتجارية (3)”.
-
لأجل هذا لم أستغرب عندما صوّت أكثر السويسريين ضد بناء المآذن في المساجد التي ستؤسس في سويسرا، وأنا لا أراهم في ذلك التصويت بدعا من الغربيين، وإنما هي ظروف واعتبارات تجعلهم – الغربيين- يغضون الطّرف، ويقبلون الواقع على مضض.. وأما أمانيّهم فهي أن لايروا في أوروبا وفي غيرها مسجدا قائما ولا مسلما ساعيا أو قاعدا.. ألسنا – في رأيهم- “أعداء طبيعيين؟”.
-
لايتسع المجال لضرب الأمثلة، وسرد الوقائع، وسوق الشواهد على سماحة الإسلام والمسلمين مع اليهود والنصارى، وأما مكانة سيّدينا موسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين عندنا فهم من قواعد إيماننا، لا يُقبل إن لم نؤمن بهم كما نؤمن بسيدنا محمد، عليهم جميعا صلوات الله وسلامه.
-
لكنني أكتفي في هذه الكلمة بذكر حادث واحد يدل على سماحتنا، ويبرهن على قبولنا لـ “الآخر”، ولو لم يؤمن بما نؤمن به، فقد ربّانا القرآن الكريم والرسول العظيم على أنه “لا أكراه في الدين”.
-
إن هذا الحادث هو ما قام به الناصر بن علناس – أمير الدولة الحمادية في بجاية- الذي بعث رسالة في سنة 1076م إلى البابا جريجوري السابع (1073 – 1085م) يخبره فيها بأنه حرّر المسيحيين الأسرى في دولته ويعده بأن يحرر من يقع من المسيحيين في أسره، ويطلب منه أن يعين قسيسا ليقوم بشؤون المسيحيين الذين يعيشون في عاصمة دولته، أو يترددون عليها للتجارة..
-
إن هذه الرسالة – التي يرجع تاريخها إلى القرن الحادي عشر الميلادي- تبين، وتدلّ على هذا الخلق النبيل، والسلوك الجميل الذي يتحلى به المسلمون، حكاما ومحكومين، ومكّنوا غيرهم- يهودا ونصارى- أن يقيموا شعائرهم في جو من الحرية لم يتمتعوا به حتى في المناطق المسيحية، حيث كان الكاثوليك يصبون العذاب الهون، ويمعنون قتلا في الأرثوذكس ثم البروتستانت، وكذلك فعل الأرثوذكس.. وأما اليهود فلم يرحمهم أحد غير المسلمين.. ولو لم يكن المسلمون رحماء، متسامحين لما بقي في المناطق التي دانت لهم يهودي ولا نصراني..
-
إن الأمر الملاحظ هو أن هذه الرسالة لم ترد في المصادر الإسلامية، ولكنها وردت في المصادر النصرانية، ولذلك لا يمكن أن يتّهم المسلمون بأنهم اختلقوها ليحمدوا بما لم يفعلوا، وليجادلوا بها.. وأما نص الرسالة المترجم إلى اللغة العربية فيمكن مراجعته في المراجع الآتية:
-
(اسماعيل العربي: دولة بني حماد، وعبد الحليم عويس: دولة بني حماد. ومجلة الدراسات التاريخية – العدد الأول، سنة 1986 – لمعهد التاريخ بجامعة الجزائر. والدولة الحمادية لرشيد بورويبة).
-
إن هذه الكنيسة التي كانت توجد في بجاية ليست وحيدة، فقد كانت هناك أخرى في بونه، وثالثة في القلعة (قلعة بني حماد) وكانت تسمى “كنيسة مريم العذراء”.
-
لقد اعتبر المفكر الفرنسي روجي ڤارودي أن “الغرب عارض طارىء”(4)، ووصفه بـ “الشر الأبيض(4)”، و”أن كلمة الغرب كلمة رهيبة(5)”، ولهذا شوّه هذا الغرب حتى المسيحية التي “أفسدها الفكر الإغريقي، والتنظيم الروماني (6)”. فهل يعجب أحد – بعد هذا- إذا صوت السويسريون على منع بناء المآذن؟ وهل يعجب أحدّ إن صوت غيرهم على ذلك؟!
-
إن هذا الذي قلته لا يمنعني من أن أنحو باللّوائم على أكثر المسلمين في الغرب، حيث كانوا وبالا على الإسلام، بأخلاقهم السيئة، وسلوكهم الشائن.. فنفّروا الناس منه، كرّهوهم فيه، وجعلوهم يحقدون عليه.. ولو كان أكثر المسلمين في الغرب على شيء، وكانوا تجسيدا حيا لمبادىء الإسلام لدخل الناس في الغرب في دين الله أفواجا.. ولهذا فقبل أن نلوم هؤلاء الغربيين؛ علينا أن نلوم أنفسنا، ونهذب أحوالنا، ونغير ما بأنفسنا.. وحقّ للغربيين أن يقولوا لنا: “فلا تلومونا ولوموا أنفسكم”.
-
-
———–
-
1) جريدة الرأي. (وهران) ع. 1139 في 23 – 1 – 2002.
-
2) هذا القول لشخص يسمى پيير دوبوا، وكان “ممثل الملك الفرنسي، وصاحب مشروع وحدة مسيحية فيدرالية في أوائل القرن 14″، أنظر: مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام. ص 13. هامش 12.
-
3) كافين رايلي: الغرب والعالم. (عالم المعرفة) ج1. ص 202.
-
4) روجي ڤارودي: حوار الحضارات. ط 1978. ص8.
-
5) المرجع نفسه: ص17.
-
6) المرجع نفسه. ص36.