-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تفكك‭ ‬الدولة‭: ‬حين‭ ‬يتحول‭ ‬المسيحيون‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬الذمة

أمين الزاوي
  • 3955
  • 5
تفكك‭ ‬الدولة‭: ‬حين‭ ‬يتحول‭ ‬المسيحيون‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬أهل‭ ‬الوطن‭ ‬إلى‭ ‬أهل‭ ‬الذمة

على مدى قرن من الزمن، أي من منتصف القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة والجديدة بلبيراليتها ويسارها تتأسس بشكل أساس ومتميز على أقلام وعقول وقرائح الأنتلجانسيا العربية المسيحية والشامية أساسا، وحين أقول الشام فأعني بها لبنان وسوريا وفلسطين والأردن، ولعل أول عامل ساعد هذه الانتلجانسيا العربية ذات التوجه القومي هو معرفتها للغات الأجنبية والفرنسية على وجه الخصوص ثم الإنجليزية والروسية، وإن قراءة سريعة لتاريخ بعض البيوتات الشامية المسيحية العريقة يعطينا صورة عن توارث الثقافة والعلم داخل هذه البيوتات

  • وربما تأتي عائلة البستاني وشيخو وزحلاوي على رأس هذه العائلات التي حملت لواء تطوير وتحديث العربية لغة وفكرا، فالقواميس الحديثة التي خلقت قطيعة معرفية (بالمفهوم الفلسفي الذي قدمه غاسطون باشلار) مع زمن لسان العرب لابن منظور أو مقياس اللغة للجواهري أو المحيط وما إليها من تراث عربي متميز هي القواميس التي بدأتها عائلة البستاني وطبعتها المطبعة الكاثوليكية التي كان لها دور الريادة في حضارة صناعة الكتاب في لبنان، كما أن ظهور النثر الروائي السردي الجديد والذي أنهى عصر النثرية العربية المقامية كان على يد آل البستاني أيضا، ومثلها عائلة آل حاوي وعائلة آل الخوري وعائلة المقدسي وآل طحان التي أسست للأدب المقارن وعائلة آل زيدان وعائلة آل معلوف وأل شحادة وآل شديد وآل تويني… أذكر هذه العائلات وغيرها كثير للتدليل على الخطاب النوعي الجديد‭ ‬الذي‭ ‬أسست‭ ‬له‭ ‬هذه‭ ‬الأنتلجانسيا‭ ‬العربية‭ ‬المسيحية‭ ‬التي‭ ‬ولدت‭ ‬منخرطة‭ ‬في‭ ‬قلق‭ ‬محاولة‭ ‬تثمير‭ ‬الفكر‭ ‬التنويري‭ ‬التحديثي‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬منتصف‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭. ‬
    ولم يكن اقتصار الأنتلجانسيا العربية المسيحية على الأدب واللغة فقط بل إن كثيرا من منظري السياسة والفكر القومي الحداثي والعلمانية والماركسية  كانوا من هذه الأنتلجانسيا أيضا، فإذا كنا نذكر أسماء في الأدب من أمثال: سليم البستاني وجورجي زيدان وجبران خليل جبران ومي زيادة وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي وريمون طحان وخليل حاوي، فإننا علينا أن نذكر ونذكر بأسماء المنظرين في الشأن الفكري والفلسفي من أمثال:  شبلي شميل وأنطون سعادة وألبرت حوراني وأنطون مقدسي ولويس عوض وصولا إلى ميشيل كيلو وعزمي بشارة وغيرهم.
    لم تكتف هذه الأنتلجانسيا بتطوير بنية الفكر والأدب العربيين في بلاد العرب ولكن حين انتقل عدد كبير منهم  إلى بلاد المهاجر نقلوا معهم ذلك الهاجس أينما حلوا وارتحلوا، فقد أسسوا صورة جديدة للعرب وللعربية في أمريكا الشمالية والجنوبية، وحتى وإن أقاموا طويلا واستوطن‭ ‬بعضهم‭  ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬المهاجر‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬يحافظون‭ ‬على‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لغة‭ ‬لإبداعاتهم‭ ‬الأدبية‭ ‬‮(‬الرابطة‭ ‬القلمية‭ ‬وعصبة‭ ‬الأندلس‭ ‬وغيرهما‮)‬‭ ‬وبالتالي‭ ‬زلزلوا‭ ‬تقليدية‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬من‭ ‬على‭ ‬بعد‭.‬
    كان الوطن المدني وعلى مدى قرن من التحديث الفكري والسياسي والأدبي هو بيت الجميع لا فرق بين مسلم ومسيحي إلا بدرجة العمل والاجتهاد في التطوير والتحديث، وكما يقول المثل القبائلي عندنا: “البيت للجميع ولكل واحد قبره”. وحين كان الوطن بيت الجميع كانت العلاقة التي تجمع‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬الشعب‭ ‬على‭ ‬اختلاف‭ ‬عقائدهم‭ ‬هي‭ ‬االشراكة‭ ‬في‭  ‬المواطنة‭. ‬فأنت‭ ‬صالح‭ ‬بقدرما‭ ‬تقدم‭ ‬لوطنك‭ ‬ولثقافة‭ ‬بلدك‭ ‬ولغتك‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬عقيدتك‭.‬
    وكانت حركة التحرر تضم في صفوف نخبها القائدة والمنظرة أبناء الوطن دون تمييز قائم على أساس ديني، وكما عانت النخب المسيحية من القهر الاستعماري الأوروبي والتركي فبمثل ذلك عانت النخب المسلمة، لأن الضريبة التي كانت تؤدى من قبل هؤلاء وأولئك كانت ضريبة حب الوطن الحر‭ ‬المستقل،‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬ضريبة‭ ‬تؤدى‭ ‬لأجل‭ ‬سيادة‭ ‬هذا‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬ذاك‭.    ‬
    كنا نقرأ كتب كثير من الأدباء العرب ولا نعرف بأنهم مسيحيون، ولا نسأل ولا نتساءل عن ذلك، كنا نتذوق العربية لغة الحداثة والتكسير عندهم، ولم يكن سؤال الدين قائما أبدا. كان المجتمع المدني أسبق على المجتمع الديني، كان الناسوت قبل اللاهوت.
     اليوم ونحن نشهد تقسيم السودان، بلاد الطيب صالح والفيتوري وأمير تاج السر والنيل الأزرق والإيقاع الأبهى، يقسم إلى دولتين واحدة للمسلمين وأخرى للمسيحيين، وبحزن نشهد اليوم أحداث مصر، حرب معلنة ومفتوحة بموتاها وخطابها المشحون بالحقد والكراهية والثأر بين الأقباط المسيحيين والمسلمين، فتنة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، مصر التي كانت بلدا تَحَاوَرَ فيه طه حسين الأزهري مع جورجي زيدان الماروني اللبناني، طويلا  تحاورا حول تاريخ العرب قبل الإسلام، بلاد ندوة الكاتبة المسيحية مي زيادة التي كانت تجمع أسبوعيا سربا من أهم الأدباء المسلمين من العقاد مرورا بالرافعي وسلامة موسى وأحمد شوقي وطه حسين وغيرهم، لم يسأل أحد عن عقيدتها ولكنهم كانوا جميعا يشهدون لها بجمال الكتابة والترجمة وتوقد الفكر، اليوم يهجر مسيحيو العراق بلدهم العريق خوفا من هيمنة سلطة دينيين‭ ‬تصادركل‭ ‬حرية‭ ‬مدنية‭ ‬ودينية‭. ‬
    اليوم حين يكون هذا واقعنا السياسي إذ تحاول بعض الأنظمة الدينية المتطرفة تحويل وجود المسيحيين العرب من مواطنين أصحاب بيت إلى أهل ذمة، هنا تكمن تراجيديا نهاية الدولة المدنية وتلوح بدايات تفككها وخراب مؤسساتها الوطنية.
    اليوم‭ ‬نخاف‭ ‬على‭ ‬موت‭ ‬الوطن،‭ ‬أما‭ ‬الله‭ ‬ومهما‭ ‬كانت‭ ‬الصلوات‭ ‬التي‭ ‬بها‭ ‬يُتوَجَّه‭ ‬إليه،‭ ‬إسلامية‭ ‬كانت‭ ‬أو‭ ‬مسيحية،‭ ‬فهو‭ ‬حي‭ ‬لا‭ ‬يموت‭.‬
        ‬aminzaoui@yahoo‭.‬fr‭  ‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
5
  • khalil

    ماذا حدث لدولتكم عندما حولنا نظامكم (نحن المسلمون) الى خدم وعبيد المسحيين ليسوا في حاجتا لكتباتك تاكلون الخبز على حساب مقدساتنا

  • Aboug

    j'aimerais que nos intelectuels soient honnetes et remettre en cause de tout ce qui a été acquis au nom de nos croyance . la valeur de l'individue se mesure par l'effort qu'il fourni à autrui et non pour ses croyances. merci Monsieur à Monsieur Zaoui que je respecte beaucoup.

  • khalil

    رقم2 احسنت....

  • دحمان

    كلام فيه بعد انساني لكنه مجتزء انت تتحدث عن النصارى و كانهم يتعرضون للاضطهاد باسم الاسلام ! وفي رواية اخرى تتكلم عن اضطهاد اليهود على يد المغيلي في توات !هل تبحث عن جوائز !

  • الاغواطي

    السلام عليكم السيد الفاصل رحم الله عهد الذمة فهي ارحم من حكم العرب الحالي للمسحين اوغيرهم ورحم الله عدالة الاسلام التي كان المسحين يفتخرون بها قبل المسلمين