-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تكريمُ مربّية متألقة

تكريمُ مربّية متألقة

مرّ نصفُ قرن عن الزمن المدرسي الجميل الذي جمعنا بأستاذتنا الماجدة السيدة عبد المالك فريدة، ومع ذلك لم يسقط اسمُها من الذاكرة، ولم تهجم أعاصير النسيان لإسقاطه، ولم يسدل التناسي سدائل الجحود السود على ما قدّمت وأنجزت. واعتقد أن كل تلميذ من تلاميذها، وأنا برعمٌ منهم، يحفظ لها في قلبه كل معاني الاعتراف والمودة والمحبة والإكبار والإجلال.

ليس سهلا أن نلقي بأبصارها إلى الخلف على مسافة زمنية تقدّر بخمسين سنة. ومع ذلك، فإن هذه السنوات نصف قرن كامل لم تستطع، بكل صروفها وتقلباتها وظروفها، أن تمحو الملامح الرائعة والبديعة لأستاذتنا من مخيلاتنا، أو أن تزيح نقشها من أذهاننا. ولم تقو على تغييرها أو تشويهها، فما زالت صورتها الزاهية والبهية ناصعة، لامعة، نضرة، مشرقة، خلابة، لائحة وبراقة كالهلال المرئي في الليالي الصافية. وما زالت تتهادى أمام الأعين بكل زخمها وقوتها وجمالها المخملي، وكأنها رُسمت بالأمس القريب.

حقّا، لقد كانت أستاذتنا مربية نادرة ومتميزة وفريدة بفضل ما مُنحت من مواهب مطبوعة أهّلتها لحب رسالة التعليم التي طعمتها وصقلتها بالجد والكد، وخضّبها بالإخلاص والتمكّن.

كانت أستاذتنا لطيفة وطيبة وهينة ولينة معنا إلى أبعد الحدود. وكانت صبورة أمام ما كان يصدر من بعضنا من نزق وطيش وحماقات تهز سكون القسم. وكانت برجاحة عقلها وسعة صدرها تضع هذه التصرفات الصبيانية في سلة المنسيات بسرعة، ولم تكن تقابلها سوى بالتوجيه الحكيم والنصح الرشيد والعفو من بعد المقدرة على العقاب.

كانت أستاذتنا الودود أختا كبرى لنا جميعا، تغمرنا بعطفها ولطفها، وترعانا بحنانها وحنوّها، وتعاملنا بالتسامح والتجاوز، وتترفع عن ملاحقة خفة انزلاقاتنا الصبيانية بالسوء والانتقام، فلا تُلقي لها بالا أو اهتماما، وتقابلها بالتغاضي والتغافل والمغفرة. ورغم أن إدارة مدرستنا، وقتذاك، كانت تنهج نهجا عقابيا صارما ومرعبا حتى أمام أبسط الهفوات وأتفه الأخطاء، إلا أن أستاذتنا كانت تملك من الحلم والرصانة والأناة ما يؤهِّلها لحل كل المشكلات الفصلية بالحسنى والرفق من دون الاستعانة بجبروت الإدارة المتهوّرة التي لم تكن ترحم طراوتنا ورقة وغضاضة أيدينا. وكانت تُنهيها من غير أن تحمل في قلبها حقدا أو كرها لأي واحد من تلاميذها المخطئين. ولم نكن نتردد في الاعتذار وطلب الصفح منها طوعا في مثل هذه المواقف. فيا لها من مربية عظيمة!.

كانت دروس أستاذتنا شيقة ومشوّقة وفيها عذوبة من رحيق شخصيتها، وكانت هذه الدروس مخلوطة بنجاعة فنياتها التدريسية العالية التي لا تنقص ولا تذبل ولا تتراجع. وكانت كل حصة من حصصها بمثابة رحلة استكشافية تستهوينا وتفرض علينا التركيز والحرص والمتابعة، ولم نكن نتعب فيها أو نضجر، أو نملّ أو نسأم. ولم نكن نشعر بثقلها أو طول زمنها.

كان كل درس من دروس اللغة الانجليزية بقيادة أستاذتنا رحلة علمية اكتسابية ممتعة، نجني فيها الفوائد والفرائد، وننهل من أطباقها أغذية معرفية لعقولنا الجائعة. وكان زمنه متخما بالنشاطات التعليمية البنائية والتكوينية المتلاحقة. ولا مجال فيه للفراغ أو تضييع الوقت الذي يُحسب عندها بالدقيقة. وما زلت أذكر أنها لم تكن تتوقف عن النظر إلى ساعتها اليدوية بين الحين والحين. وكانت تهتمّ بكل تلاميذ القسم، وتمنح لكل واحد منهم حق المشاركة أو السؤال. وكانت، وبخفتها ورشاقتها، لا تتوقف عن مرافقتنا عن قرب ومتابعتنا وتوجيهنا عن كثب واحدا واحدا. ولم تكن الأخطاء التي تصدر منا تقلقها أو تزعجها، لأن تدرك أن الخطأ حقٌّ من حقوق المتعلم قبل أن يتعلّم. وكان مستوى الفهم والاستيعاب يبلغان درجة مثلى عند كل التلاميذ في نهاية كل درس. ولهذا لم يكن أغلبنا يحتاج إلى صرف ساعات طويلة لمراجعة دروسه قبيل حلول مواعيد الفروض والاختبارات.

عندما قطعتُ شوطا معتبرا في طريق البيداغوجيا، وهو من أمتع وأعذب الطرق التي شققتها في حياتي التعليمية، أصبحت بين الفينة والأخرى، أقلّب صفحات ذاكرتي مُمعنا النظر في الدروس التي تلقيتها، وزائرا لماضي أساتذتي الذين جلست متعلما بين أيديهم. وكنت أطيل الوقوف أمام دروس أستاذتنا التي استرجع سريانها في انبهار وإعجاب. وكانت أداءاتها المستذكرة تستوقفني في اندهاش نظرا لما فيها من إعجاز مثير. وكنت أسائل نفسي في همس: في أي جانب تختلف دروس أستاذتي الفاضلة عن نظريات المربّين الكبار في قيادة الأقسام من أمثال: جون ديوي رائد النهضة التربوية الكبرى في أمريكا، أو جان جاك روسو صاحب “العقد التربوي”، أو منتسوري أو طابا هيلد، أو غيرهم؟. ومازلت أعتقد في غير مبالغة أو مزايدة أن كبير المربين العالميين جان بياجي السويسري الذي تشدُّني أعماله لم يكن محظوظا؛ لأنه لم يلتق أستاذتنا، ولم يجلس متابعا درسا من دروسها في حياته. ولو كُتب له ذلك، لاستفاد منها كثيرا، ولأضاف فصولا أخرى إلى أعماله في فن التعلم التي يعترف بها الغرب والشرق، ويغرفان منها.

في القسم، لم تنقل إلينا أستاذتنا الموهوبة اللغة الانجليزية، وإنما نقلتنا إليها بلا مشقّة بفضل مهارتها وكفاءتها. وأذكر أنها في السنة الثانية التي قضيناها معها، لم تعد تكلّمنا إلا باللّغة الانجليزية حتى تعوّدنا التواصل والحديث بها. وما زلت أذكر، كذلك، أنها اضطرت مرة أولى وأخيرة إلى النطق أمامنا باللغة العربية الفصحى اضطرارا لتوضيح درس استغلق علينا مبناه لرفع ودفع غموضه، ونطقت بالجملة التالية: (سُرقت السّاعة).

نبتت أستاذتنا في حضن عائلة عريقة الأصالة في بلاد الزواوة الطيبة، وعُرف أهلها بالوجاهة والمكانة العلمية والشدّ على القيم الوطنية. وهي عائلة تربى أبناؤها على الاجتهاد والجهاد، والثورة والتمرد ضد الاستعمار الفرنسي دفاعا عن الدين واللغة العربية العزيزة. ودفعوا بسبب هذا الاختيار الممانع ضريبة ثقيلة، إذ أقدم الجيش الفرنسي على حرق ديارهم وهدمها عن آخرها أثناء الثورة التحريرية نكاية وانتقاما، وأبقاها أطلالا مجردة ورمادا متطايرا.

كانت أستاذتنا لطيفة وطيبة وهينة ولينة معنا إلى أبعد الحدود. وكانت صبورة أمام ما كان يصدر من بعضنا من نزق وطيش وحماقات تهز سكون القسم. وكانت برجاحة عقلها وسعة صدرها تضع هذه التصرفات الصبيانية في سلة المنسيات بسرعة، ولم تكن تقابلها سوى بالتوجيه الحكيم والنصح الرشيد والعفو من بعد المقدرة على العقاب.

نشأت أستاذتُنا ونمت وكبرت في”زمُّورة” القريبة من مدينة غليزان، وهي  بلدة جميلة تمتاز بزراعة أجود أصناف أشجار الزيتون. وفيها أنهت مرحلة دراستها الابتدائية. ومع بزوغ شمس الاستقلال، انتقلت عائلتها إلى الجزائر العاصمة التي واصلت فيها تعليمها الإعدادي والثانوي في ثانوية عمر راسم حتى نالت شهادة الباكالوريا بجزئيها الأول والثاني في الفرع الأدبي. وبعدئذ، دخلت معهد بوزريعة الذي كان يديره، زمنئذ، سيد الرجال الأستاذ عبد الحميد مهري، رحمه الله، لتكون ضمن أول دفعة لإعداد أساتذة التعليم المتوسط، وتخصصت في تدريس اللغتين الفرنسية والانجليزية. وانطلقت في شق طريق رحلتها المهنية بمدينة باتنة في مطلع سبعينيات القرن الماضي في إكمالية الشيخ عبد الحميد بن باديس. وبعد عشر سنوات، التحقت بالجامعة لمواصلة دراستها، وتخرّجت أستاذة في التعليم الثانوي الذي قضت فيه عشرين سنة موزَّعة بالتساوي بين ثانوية محمد الصديق بن يحي وثانوية خديجة.

إن أعظم ما يلفت في شخصية أستاذتنا الماجدة، وبغضّ النظر عن كونها مربية مبدعة ورفيعة المقام وعالية الهمة، هو ثقتها في نفسها وتواضعها أمام الناس أجمعين، وإنسانيتها الطافحة. وعندما تحدّثتُ إليها في الأيام الأخيرة حديث الشخص الذي ما زال يرى نفسه تلميذا أمام أستاذته، لم أجد أنَّ النجومية والأضواء وحب الظهور تعنيها أبدا، أو تسعى إليها، كما يفعل الكثيرون. وألفيتها على عهدها الأول من التواضع وإنكار الذات. وترجتني ألا امتدحها كثيرا، لأنها جُبلت على نبذ المدح. وقالت لي: (كنت كغيري من زملائي وزميلاتي من الأساتذة والأستاذات، ولا أزيد عنهم في أدنى شيء. وما قدّمته لا يتخطى عتبة أداء الواجب، وربما كنت مقصِّرة أحيانا). ورددت عليها: لا نختلف على أنَّ الأمر يتعلق بإتمام الواجب، وإنما قد نختلف ونذهب طرقا شتى حول طريقة أداء هذا الواجب، وخاصة إذا كان مرتبطا بتربية الأجيال عماد المستقبل وتنشئة رجال ونساء الغد.

هذه هي أستاذتنا ومربيتنا وأختنا الكبرى في سطور. وأنا على يقين أن كلماتي المتواضعة لا تدنو من مستواها للتعريف بها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!