تهافت فكر مثقفينا العلمانيين !
إن اللائكية في الجزائر إذا كانت لم تبرز على السطح السياسي والثقافي كفلسفة وكمطمح إلا في عهد الديمقراطية عند بعض الأحزاب السياسية فإنها كمضمون وكنقاعة فكرية كانت مجسدة في “مبادرات” عرفها الواقع التاريخي الجزائري الحديث، يغذيها ويرعاها بعض من كانوا يملكون قوة أخذ القرار في مجالات حساسة، كالتربية والتعليم والثقافة والإعلام، ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو إلغاء ما كان معروفا “بالتعليم الأصلي” الذي كان يشرف عليه وزير الشؤون الدينية آنذاك المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم، ولقد ارتبط قرار إلغائه في أذهان الجزائريين بالكلمة الشهيرة الجريئة التي رد بها مولود قاسم على الرئيس الراحل الهواري بومدين الذي قال له خلال انعقاد أحد مجالس الوزراء: “لا تأسف ياسي مولود … إننا اتخذنا هذا القرار حرصا منا على وحدة التعليم !” فقال له سي مولود: هذه وخدة التعليم ياسيادة الرئيس..
لقد كانت أمثال تلك المبادرات “تمليها وتشجعها” فئة محظوظة نافذة من المثقفين الجزائريين الذين تكوّنوا تكوينا عصريا بعيدا عن مناخهم الحضاري الأصيل وتأثروا بمنهاجية التفكير الغربي القائمة – كما نعلم جميعا – على نظرة خاصة للإنسان والكون والحياة، ويتجلى هذا التأثر في تبني هؤلاء المثقفين الجزائريين لجملة من “الفهوم” وأخذها على أنها من المسلمات العقلية لأنها كذلك في المنظور الغربي، ومن ذلك مفهوم العلمانية، هذا الوهم الخادع الذي سماه الغرب حلا جذريا لمسألة الدين وعلاقته بتصريف شؤون الفرد والدولة والمجتمع.
لكن الخطأ الجوهري لهؤلاء المثقفين المستلبين هو عدم إدراكهم أن العلمانية وليدة واقع تاريخي متميز ومناخ حضاري خاص فلا يمكن إسقاطها على واقع تاريخي آخر كالمواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية أو على وضعها الحضاري القائم، إذ ليس هناك “مماثلة” تسوغ المقارنة أو الموازنة بينهما.
إن الإنسان الغربي عندما يتحدث عن العلمانية كعلامة نضج حضاري ورقي فكري فإنه ينطلق من نسق عام ينسجم مع المنطق ومع التاريخ لأنه يتبنى قناعات خاصة به ومسلمات عقلية لا يقبل فيها جدالا ولا مراجعة.
والمسلمة العقلية الأولى بالنسبة للإنسان الغربي هي أن الدين الرباني المصدر مقدس وخالد وكامل، أما واقع البشر فإنه عكس ذلك، فهو ناقص ومتغير وغير مقدس وفان، ثم إن الدين روحي والواقع زمني، فهناك إذن تناقض قائم أبدا بينهما مما يجعل زواجهما أمرا مستحيلا.
فإذا توحد الدين مع الواقع لابد من أن يشوّه أحدهما الآخر، فإما أن يطبع الحكم الديني بقداسته واقع الحياة المتغير والمتلون، وإما أن يطغى هذا الواقع الدنيوي الزمني الناقص على الدين فيدنسه ويجرده من سموّه وقداسته وروحانيته..
وإذن فالإنسان الغربي منسجم مع نفسه وتاريخه ومناخه الحضاري، لأن تاريخ المسيحية المحرفة أكد ضرورة ذلك الفصل الحاسم بين الدين والواقع، بين الدين والقانون، بين الدين والدولة.
فالعلمانية هي التي صححت مسار الكنيسة في الغرب بعد أن انحرفت انحرافا يأباه العقل وتعارضه الفطرة ويناقضه التطوّر السليم للحياة.
وليس في هذا كله أدنى غرابة أو لبس أو غموض، لكن الغريب حقا هو أن يتبنى بعض مثقفينا هذه النظرة ويرونها صالحة اليوم للمجتمعات الإسلامية مثلما صلحت للغرب، ويدعون إليها جهرا وعلانية بعد أن كانوا يومئون إليها سرا وخفية، في ثقة تؤكد اغترابهم عن الذات أولا وجهلهم بالحقائق الكلية الإسلامية ثانيا، وأول هذه الكليات أن الإسلام عقيدة وشريعة، أي أن هناك واجبا دينيا مقدسا لابد له من إطار مدني لكي يتحقق، والإسلام بعد ذلك أو مع ذلك هو قيم روحية وخلقية لا بد أن تحيا وأن تنتعش وتثمر، ولا يمكنها ذلك إذا هي لم تسر في مجالات حساسة كمجالات التربية والتعليم والقانون والقضاء والسياسة والإعلام. ومن يضمن لها هذا الحضور الحي في هذه المجالات من غير جهاز مدني منظم يؤمن بها، أي الدولة…
أغلب الظن أن المتأثرين بالعلمانية من مثقفينا لم يدرسوا الإسلام ولا المسيحية دراسة وافية ليروا بعد ذلك هل هناك حقا شبه يذكر بين الوضعيتين والطبيعتين.
وأغلب الظن كذلك أنهم أخطأوا من الأساس عندما خلطوا بين الإسلام وواقع المسلمين ومسارهم عبر التاريخ بقوته وضعفه وسموه وانحطاطه ليخرجوا بعد ذلك بنتيجة منطقية في نظرهم وهي أن المماثلة موجودة فعلا بين الواقع التاريخي لسياسة الحكم في الإسلام وبين الواقع التاريخي لسياسة الحكم في ظل الكنيسة في القرون الوسطى، وبما أن هذه المماثلة قائمة بينهما فإن من المنطق أن تتساويا في النتيجة والحكم على حد سواء فتكون العلمانية هي الحل للمجتمعات الإسلامية مثلما كانت حلا جذريا للمجتمعات الغربية المسيحية.
لكن السؤال الذي يقلب هذا المنطق المهزوز رأسا على عقب هو: إذا كانت أوروبا لم تنهض فعلا إلا بعد أن حسمت مسألة الدين وفصلته عن الدولة فلماذا اقترن انحطاط المسلمين في التاريخ وتخلفهم بتخليهم عن “جوهر الإسلام وعدم تطبيقهم السليم لأحكام شريعته؟ !“.
ثم إن الإنسان الغربي إذا كان يعيش اليوم هذا “الانسجام” في مستوى منطق العقل والتاريخ فإنه يعيش في الوقت نفسه في مستوى الذات والمصير قلقا حادا وإحساسا عميقا بالضياع وعبثية الحياة، لأنه عندما صحح علاقته بالكنيسة لم يصحح علاقته بالدين، فهو إنسان ممزق، إنه يحس انجذابا فطريا إلى الدين ويدعوه إلى ذلك عقله، لكنه ينفر من “هذا الدين” بدافع من تلك الفطرة نفسها وبدافع من ذلك العقل نفسه، لأن هذا الذي يقدم له على أنه دين سماوي يهين العقل ويحتقر العلم ويبارك الجمود ويعارض الفطرة ويشل الحركة والإبداع ويعطل الحياة! ثم إن هذا الدين بعد ذلك كله يضع الإنسان أمام قدر محتوم هو الخيار بين مصدرين: إما أن يكون إنسانا دينيا وإما أن يكون إنسانا مدنيا، أما أن يتألف منهما إنسان واحد متكامل منسجم مع نفسه ومصيره ومع الكون والطبيعة والحياة فذلك مما لا يمكن تمثله وتحقيقه.
إن الإسلام لا يعرف مثل هذه “الثنائيات”، فهو عقيدة وشريعة ومنهاج رباني شامل كامل لتصريف شؤون الأفراد والجماعات والأمم، يضع المقاصد والمثل والغايات ويترك للعقل الإنساني بعد ذلك الاجتهاد ليضع النظم والقوانين والوسائل والأساليب والكيفيات التي يتوصل إليها بفعل الممارسة والتجربة والتفاعل الحي مع واقع الحياة المتغير والمتجدد.