-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تهنئة إلى كاتب رسالي

التهامي مجوري
  • 705
  • 0
تهنئة إلى كاتب رسالي

فالكاتب الرسالي هنا هو الإعلامي المثقف، والأكاديمي الجامعي، الأستاذ الطاهر الأدغم، الذي كرم في عرس ثقافي بدار الثقافة لولاية الوادي، بين أهله وأهل جوّه، الذي يتنفسه منذ سنين.

وأما التهنئة فهي مناسبة حصوله على جائزة “السنام الذهبي” في المسابقة السنوية الخاصة بالمطالعة والتأليف، التي تنظمها مكتبة المطاعة العمومية بولاية الوادي في طبعتها الثامنة.

وبهذه المناسبة نذكر فضيلة ثقافية لولاية الوادي، ليعلم الناس أن ولاية الوادي، لا تنتج التمور والبطاطا فحسب، وإنما كانت ولا تزال تنتج الأدب والفن والثقافة والفكر، ورغم ضعف الإهتمام بذلك على المستوى الوطني، فإن جهاد الأديب بشير خلف وإخوانه وأبنائه الشباب ومنهم الأستاذ الطاهر الأدغم، لم تتوقف ولم تستسلم للقسوة وضعف الاهتمام…، ومن بين ما أحدثته ولاية الوادي من أحداث ثقافية لافتة، أنها رسمت منذ سنوات “موسم الأنشودة المدرسية” التي حلوتها من مبادرة محلية إلى نشاط وطني، لا أدري الآن هل توقف هذا المشروع أم لا يزال قائما؟ ونذكر بهذه المناسبة أيضا الإصدارات التي تظهر تباعا بفضل نشاط الجمعيات والأنشطة الثقافية المتنوعة، في الجامعة أو في دار الثقافة أو في مكتبة المطالعة العمومية…إلخ.

وتهنئتي للأستاذ الطاهر هنا ليست مجرد فرحة قاصرة يمكن نسيانها وتجاوزها بمجرد ذهاب زمنها، وإنما هي تهنئة متعدية إلى عمق الأشياء، التي يتطلع إليها كل رسالي في هذه الحياة، وإلى ما بعد هذه الدنيا الفانية، ذلك أن الأستاذ الطاهر ليس شخصا عاديا فيما أحسب، أو حتى مثقفا عاديا، وإنما هو مثقف عضوي كما “يقول غرامشي” ونطلق عليه في أدبياتنا العربية الإسلامية مصطلح رجل رسالي، ولسان حاله يروي عنه ذلك، وشهادات الكثير ممن عرفه، ولست وحدي من يقول ذلك.

الرجل إعلامي متميز، ومدرب محترف في تطوير الذات، وقد أنفق الكثير من المال والوقت ليحصل على المرتبة التي يرتضيها، وكان يمكنه بذلك أن لا يلتفت لشيء غير مصالحه الخاصة، فينال من الدنيا التي يتكالب عنها الناس، على كل ما يريد ببساطة ويسر…، ولكن سي الطاهر فضل الرسالية والإستثمار في الأبقى، فرضي بالقليل من الدنيا، من أجل تحقيق ما يراه مطلوبا ويراه غيره لا شيء.

عكف على الكتابة، وعلى تصنيف ما كتب من مقالات في الصحف، حيث أن تشعب اهماماته الرسالية قادته إلى الكتابة في الكثير من الفنون، فكتب في السياسة وفي الثقافة وفي العلاقات الدولية وفي أدب الرحلة؛ بل في بعض مقالاته تلمس قدرة عالية على الكتابة في الأدب الساخر، ولكنه لم يستمر في تبني هذا الأسلوب رغم قدرته عليه، لا أدري أهو عدم اقتناع بجدوى ذلك؟ أم هو جد الرسالية الذي لا يقبل السخرية؟

لقد انفق الأستاذ الطاهر على طبع كتبه من حر ماله ومن خبز أولاده، وذلك ليس بغاية الربح والتسويق التجاري لما يكتب، وإنما من أجل تخليد الكلمة الطيبة التي تؤتي ثمارها ولو بعد حين… يكتب، ويراجع، ويصحح، ويذهب إلى المطبعة، ويتابع مراحل الإنجاز، كمن ينتظر مولودا، ويقوم على من يصمم له الغلاف، ويدفع حقوق التصميم والطبع، كل ذلك من أجل أن يخرج الكتاب ويهديه إلى قرائه من المثقفين والأساتذة الذين يرى فيهم تقدير الكتاب والكتابة…

فهذا الذي يقوم به الأستاذ الطاهر، جنون عند البعض، ونوع من أنواع الجنون عند آخرين، وكلام فارغ ومضيعة للمال والجهد عند فئة ثالثة، وتشكيك في نيته عند فئة رابعة، ولا أظنه وجد من يصبر على جنونه إلا القليل القليل ممن كانتوا مثله أو شبهه كما يقال… ومع ذلك سار الأستاذ غير مبال بكل من “يزمر ويطبل” من حوله، بكل رضى وطمأنينة…،

الأستاذ الطاهر جاد ورسالي في مهنته وفي لغته وفي حسن أدائه، ولكن كل ذلك بنكهة جنونية لا يدرك سرها الكثير من العاقلين، ومن مظاهر هذه النكهة “الجنونيه” أنه ترك قناة الجزيرة ليعود إلى الإقامة في قرية نائية في ولاية الوادي تسمى “هُبَّة”، فقد كان يشتغل بهذه القناة التي أربكت العالم العربي المهزوز؛ بل وكتب عنها وعن أهميتها أفضل ما يُقْرأ عن الجزيرة في تقديري، وقد كان هذا المقال بعنوان “الجزيرة في قطر أم قطر في الجزيرة”، للكشف عن قوة هذه القناة وأهميتها، وقد هز به قراء العالم العربي يومها، ولكن منطقه فرض عليه تركها ليعود إلى بلاده… كيف ترك الجزيرة؟ تركها لأنه رأى ببساطة أن تركها بالنسبة إليه أولى من البقاء فيها…، لا يهم ما هذا الذي أجبره على مغادرتها، وإنما المهم أن السبب –فيما أظن- ليس من الأسباب التي اعتادها الناس، المال والمناصب والعلاقات؛ بل قطعا ليس ذلك، وبالتأكيد أن غايته من هذا الترك ليست مادية، وإنما هي من القيم المتناغمة مع الرسالية.

الرجل مدرب في تطوير الذات، والناس تتكالب على هذه الحرفة، لما فيها من مكاسب ومناصب، ولكن سي الطاهر تركها ولم يلتفت إليها كثيرا، وربما لا يستجيب لمن يطلبها إلا لماما، واستبدلها بمساهمات إعلامية في الجرائد الورقية المكتوبة وسويعات للتدريس في الجامعة.

الأستاذ الطاهر رجل محب للمثقفين والرساليين، بل هو رسالي في جميع حركاته وسكناته، فقد صادف وأن قدمني لمجموعة من الشباب في كلمة توجهت بها إليهم، بقوله هذا فلان تعرفت عليه منذ كذا سنة… ولكن منذ أن تعرفت عليه لا أذكر أننا اختلفنا في قضية ناقشناها… وذلك لا يعني أنني متفق معه في كل شيء، وإنما عندما نلتقي دائما نبدأ بالكلام عن الهم العام الذي لا يختلف فيه إثنان، فيشغلنا ذلك عن الخوض في الأمور الجزئية التي يختلف فيها الناس عادة، بحيث نصل إلى موعد الافتراق ولا نكمل كل ما أردنا الكلام فيه وهو في الغالب من الأمور التي نحن متفقون عليها، وهكذا في كل مناسبة نلتقي فيها معا.

عاش الأستاذ الطاهر بتلك الروحانية العالية في وسط قلما يتفهم ممن حوله جنونه وقناعات وفعله غير العادي، وكانه في موقع محاصر فيه، لا أحد يفهمه، لا أحد يزكي فعله، لا أحد يعترف له بفضل كما يريد هو، وليس المجاملات التي نتلقى منها القناطير المقنطرة كل يوم… في هذا الواقع، جاء اليوم “المفاجأة” ليتنفس الصعداء وتنفرج عنه كربة من كرب “العزلة” التي فرضها عليه من لا يفهمه ورسالته… فجاء تكريمه بهذه الجائزة اعترافا له بسلامة العقل والقلب وصدق المشاعر، وسمو القعل الذي يقوم به، اعترافا له بأن ما يقوم به ليس جنونا ولا قريبا من الجنون، وإنما هو الفعل والسلوك الذي ينبغي على كل مثقف أن يسلكه لأنه الطريق الصح الذي خص الله به النخبة لقيادة المجتمعات، التي هي في الغالب “مال بلا راعي” إذا ما تخلت عنها نخبها المفترضة.

فهنيئا للأستاذ الطاهر الجائزة… وهنيئا لمكتبة المطالعة العمومية لولاية الوادي على جهودها المبذولة في سبيل صناعة قادة رأي جادين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!