الشروق العربي
الشروق العربي تتجول في "المدينة الرومانية ثاموقادي"

تيمقاد تغرق في الصمت والتاريخ والإهمال

الشروق أونلاين
  • 13104
  • 7

انطلقت الرحلة عند الساعة العاشرة صباحا باتجاه المدينة الأثرية “تيمقاد”التي لطالما كان بي فضول لزيارتها وعقدت العزم على ذلك فور زيارتي لولاية باتنة. النيّة كانت والفرصة جاءت وهاهي تيمقاد على بعد 32 كلم تتناهى لتزيد من فضولك وترسم بمخيلتك عوالم حكايات غابرة، وصورة حية للتاريخ والعادات والتقاليد لما يجاوز آلاف السنين.بعد أقل من ساعة دخلنا المدينة الغارقة في السكون والتي تبدو من خلال عمرانها وسكانها غاية في البساطة فلا ابتذال هنا كل شيء مفتوح على الطبيعة، ترجلنا قليلا لترحب بنا لافتة “متحف وآثار تيمقاد”.بعدها تجد نفسك في حضرة الأطلال لا مقدمات ولا شروحات إنه التاريخ يؤخذ كما هو.مباشرة بعد البوابة تستقبلك بعض الجداريات واللوحات الأثرية والنصب والتماثيل التي كانت تجسد أجساما أو رؤوسا منحوتة وتحتها بعض الكتابات والشروحات الرومانية، هذه الآثار وزعت بانتظام يمينا وشمالا يفصل بينها ممر يتواصل صعودا وكأني بها تؤدي لك تحية ترحاب وشكر عن الزيارة.بعد ذلك يلفظك الممر لطريق يبدأ بالاتساع صعودا ويظهر من آخره عمودان يوحيان بباب كبير يغريك لدخول “ثاموقادي”.

بُنيت مدينة تيمقاد سنة 100 للميلاد من طرف الرومان في عهد الأمبراطور “تراجان” ، وكانت أهداف بنائها  في البداية استراتيجية، حربية لتلعب دورًا دفاعيًا، فأصبحت فيما بعد مركزًا حضاريًا  وتجمعا سكانيا ومدينة متكاملة توفر بين أذرعها مختلف المرافق والخدمات والهياكل الأساسية .

بنيت المدينة على هيئة شبه مربّع طول أضلاعه 354×324م . بشكل لوحة شطرنج بواسطة طريقين رئيسيين شمال – جنوب CARDO MAXIMUS) ) و شرق – غرب (DOCUMANUS MAXIMUS) ، يشقها الطريقان الكبيران ويتقاطعان من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.بالإضافة لطرق فرعية موازية للطريقين السابقين. وينتهي كل شارع ببابين كبيرين في طرفيه، يزينهما قوسان ضخمان بحجارة وأعمدة منحوتة بحرفية عالية.وقد شيدت المدينة على مساحة قدرها 11 هكتار في البداية ومع مرور الوقت ازداد عدد سكان المدينة وتحولت لمركز سكاني، فهدمت الأسوار التي كانت تحيط بالمدينة، وبنيت بها أحياء جديدة خاصة في الجهة الشرقية للمدينة وأحاط الرومان المدينة بجدار كبير لحمايتها، كما تفننوا بتزويدها بكل المرافق الضرورية التي تقدم خدمات مميزة، والتي لا تزال آثارها واضحة للعيان على غرار “الفوروم” أو الساحة العمومية ويحيط بها “المجلس البلدي” و”معبد الإمبراطور”، و”قصر العدالة”، إلى جانب “السوق العمومي”، و”المحلات التجارية”، وغير بعيد عنها شيد المسرح لإقامة التظاهرات الاحتفالية المختلفة هذا المسرح الذي استغل في البداية لبعث وإحياء سهرات مهرجان “تيمقاد الدولي”لتغير وجهة المهرجان فيما بعد لمسرح جديد مستحدث وهذا للحفاظ على القيمة التاريخية والأثرية للمسرح الروماني التي انتهكت من طرف الساهرين على نغمات الطبلة  والدف.


ابتداءً من النصف الثاني للقرن الثاني ميلادي، عرفت المدينة تطوراً عمرانياً هاماً تطلب مساحات إضافية، فظهرت أحياء سكنية جديدة وشُيدت “المعابد “و14 “حماما عموميا” كبيرا. وبلغ التطور العمراني ذروته في القرن الثالث الميلادي إذ بنيت منشآت جديدة مثل “المكتبة العمومية” و”السوق”، ومساكن أوسع وأكثر رفاهية. وفي القرن الخامس ميلادي، احتل الوندال المدينة ودام احتلالهم قرابة قرن انتهى بعد أن حل البيزنطيون محلهم فقاموا بنهب الكثير من المعالم الرومانية وتقويض معبد ضخم لبناء قلعة بيزنطية غير بعيد عن المدينة الرومانية.

ومع حلول الفتح الإسلامي ابتداء من القرن السابع الميلادي، انتهى العهد البيزنطي وتتحول الحياة الحضرية بالمدينة إلى مدن أخرى أسسها الفاتحون مثل: “بغاي”، “وطبنة”. وبعد قرون من التغيرات العمرانية، غمرت الأتربة المدينة ولفها النسيان. إلى أن شرع الفرنسيون في التنقيب عن آثارها ابتداءً من عام 1880. وبقيت الأبحاث الأثرية قائمة إلى غاية استقلال الجزائر في سنة 1962 . وأبرزت هذه التنقيبات  والأبحاث المدينة الأصلية وحاولت هذه الأخيرة نفض الغبار على المدينة الأثرية وانتشالها من براثين النسيان والإهمال الذي عرفته. كما أقام الفرنسيون متحفا نقلوا إليه مجموعة من التحف الأثرية الثمينة لحمايتها من النهب والتلف ومنها:”جرار”،  و”أدوات فخارية”، و”لوحات فسيفسائية” جميلة كانت في ما مضى تغطي أرضية المساكن الخاصة والحمامات العمومية ومجموعة من “التماثيل” و”النصب” التي تعطي كلها صورة عن معتقدات أهل تاموقادي عبر الكتابات والرسوم المنقوشة عليها والتي تقود إلى التعرف على تاريخ الأفراد والمدينة وعلى مختلف العادات والتقاليد الراسخة آنذاك، وهي نصب موضوعة لتقديس الأموات أمامها صحون لاعتقاد الرومان أن أرواح الموتى تستيقظ لتأكل.وكذا خلفيات تشييد البنايات والطرق والمرافق المختلفة ومنها تتعرف على نمط معيشة الرومان، وتتأكد من ذوقهم الفني والمعيشي الرفيع، إذ لم يغفلوا بناء أي مرفق خاص بحياتهم الاقتصادية أو الثقافية أو الدينية على غرار الأسواق، المتاجر، الحمامات، المسرح، المكتبة، المعابد، بيوت التعميد.

وأهم ما يلفت انتباه المتجول  في تاموقادي إضافة للأعمدة والأبواب الشامخة رغم مرور الزمن هو وجود “ساعة شمسية” في قلب الساحة العمومية “الفوروم” وهي عبارة عن خطوط طويلة متعامدة تحدد الوقت للسكان انطلاقا من انعكاس أشعة الشمس على مختلف هذه الخطوط. كما تتميز المدينة باحتوائها على مكتبة عمومية بها 8 رفوف للكتب، أربعة على اليمين وأربعة على اليسار، وهي ثاني مكتبة رومانية في العالم آنذاك بالإضافة . إلى جمال المسرح الذي بني بطريقة تسمح للصوت برجع الصدى في أرجائه من دون أي آلات تقنية حديثة، المدينة الغارقة في التاريخ تستهويك لتجولها شمالا وجنوبا شرقا وغربا وكأنك في كل خطوة تقلب صفحات في كتب العمارة والتاريخ على حد سواء ما جعلها مدينة فريدة من نوعها في العالم، خاصة وأنها لا تزال تحتفظ بتصميمها الأولي ما يجعلها المثال النموذجي للمدينة الرومانية ولكن ما يحز في النفوس أن اعتدنا في بلادنا أن نهتم بمعلم أو تحفة فنقوم بتسيجها وإعلاء أسوارها هو لا محالة فعل مهم، ولكن الأهم أن يهتم بتلكم الآثار الرومانية العابث بها فالمكان أهم من أن يكون للمواعيد الغرامية، أو أن يكون ملها لصغارنا يركضون فيه هنا ويعبثون فيه هناك وهو أكثر قيمة من أن تدخله ولا تجد مرشدا يرافقك ترجلا ويفوقك ثقافة حول المكان. فتكتفي بأخذ الصور وأنت المولع بتوثيق اللحظة، وبتوزيع خطواتك في كل الاتجاهات حتى لا تفوتك تفصيلة صغيرة لتنقلها لأوفيائك في مساحة “قصة مكان بمجلة الشروق العربي”

مقالات ذات صلة