الرأي

ثلاثة أيام في ضيافة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بتلمسان

محمد بوالروايح
  • 4201
  • 18

كانت تلمسان طوال ثلاثة أيام قبلة للفيفٍ من العلماء الذين وفدوا إليها من الجزائر وتونس والمغرب، فعلى هدي القرآن والسنة، وخطى الإمام العلامة عبد الحميد بن باديس وأمير البيان في الجزائر محمد البشير الإبراهيمي رحمهما الله، التأمت جلسات العلم التي استمعنا خلالها لدُرر فكرية جادت بها قريحة المتحدثين الذين تناولوا من زوايا فكرية مختلفة جانبا غابرا ومغمورا من تاريخ الحركة التجديدية الإسلامية في الجزائر ممثلا في العمل التجديدي الذي قام به علمان بارزان هما أبو عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني، ومحمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المستغانمي.

يمكن أن ألخص ما جاء في الملتقى في النقاط الآتية:

1- أجمع المتحدثون والمعقبون والمناقشون على حد سواء بأن العلمين: أبوعبد الله بن يوسف السنوسي التلمساني ومحمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المستغانمي، قد أسسا في زمانهما حركة إسلامية تجديدية جعلت الكتاب والسنة منطلقا لها، وراهنت على العناصر التجديدية في العقيدة والفكر الإسلامي، فأحسنت توصيفها وتوظيفها وإيصالها إلى مريديها بمنهج فكري إسلامي وسطي يستقي من معين الإسلام ويلتقي مع توجُّهات الأمة الإسلامية في ذلك الزمان.

2- مما يستفاد من جلسات الملتقى أن لكل من أبي عبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني ومحمد بن علي السنوسي منهجَه في التجديد، فأبوعبد الله محمد بن يوسف السنوسي التلمساني كان أكثر وأكبر اهتمامه منصبًّا على المسائل العقدية والكلامية التي بسطها في كتابه “أم البراهين” ومصنفاته الأخرى، أما محمد بن علي السنوسي فقد كان اهتمامه منصبًّا بالدرجة الأولى على تفعيل الفكرة النظرية وتحويلها إلى حركة فاعلة، ويبدو أن الأحداث التي عاشها وعاصرها، وهو الذي ينتمي زمنيا إلى القرن الثالث عشر الهجري قد دفعته إلى ذلك، وبخاصة الهجمة الاستعمارية والتنصيرية التي استهدفت الإسلام والمجتمع الإسلامي، ومن ثم تعيَّن على علماء ذلك الزمان ومن بينهم محمد بن علي السنوسي التصدي لها بفكر إسلامي متجدد يعصم الأمة الإسلامية من الذوبان ويجدد صلتها بالإسلام.

3- من جملة ما لفت انتباهنا في الملتقى لأنه يشكل في اعتقادنا منطلقا مهما لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الراهن هو تأكيد رئيسها الأستاذ عبد الرزاق قسوم بأنها جمعية إسلامية وطنية محافظة على خطها الإسلامي والوطني اقتداء بالجمعية الأم التاريخية، ولذلك فهي -كما قال- تجدد من جهة تمسكها بالثوابت الوطنية التي يجمعها الشعار الجامع: “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”، وتثمن من جهة أخرى قرار فخامة رئيس الجمهورية ترسيم الأمازيغية لغة وطنية رسمية، ولم يخف الأستاذ قسوم رغبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في كتابة اللغة الأمازيغية بالحرف العربي الذي سيزيد من تعميق صلتها بالرافد الإسلامي والعربي وسيعزز اتحادها واندماجها داخل منظومة الثوابت الوطنية.

4- أكد رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين الأستاذ عبد الرزاق قسوم في أثناء تدخلاته في الملتقى على أن الصراع بين الجمعية والزوايا صراعٌ مفتعَل؛ لأنه ليس من ديدن الجمعية معاداة الزوايا طالما أن هذه الأخيرة ملتزمة بالتصوُّف الإسلامي المعتدل البعيد عن الشطحات والخرافات التي تخالف هدي الإسلام، وأكد في هذا الصدد بأنه قد بادر شخصيا إلى حضور نشاطات بعض الزوايا، كما أكد على أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ذات التوجُّه الإسلامي والوطني تنسِّق جهودها في هذا الإطار مع جهود القائمين على الزوايا من أجل خدمة الصالح العام والتعاون على خدمة الإسلام والجزائر.

5- أشار كثيرٌ من المتدخلين إلى أن من ثمار الحركة التجديدية التي قام بها محمد بن علي السنوسي، والتي انتشرت في المغرب الإسلامي والسودان الإفريقي وما وراءه، هو التأكيد على أنه لا مناص من عرض الطرق الصوفية على محك الإسلام؛ فما وافق منها الإسلامَ أخِذ، وما خالفه رُدَّ، وهذا عين ما دعا إليه محمد بن علي السنوسي الخطابي الحسني الإدريسي المستغانمي في مصنفه: “السلسبيل المعين في الطرائق الأربعين”، وأقول بناء على ذلك إنه ينبغي تنقية وتصفية الطرق الصوفية من البدعيات بالاعتماد على ما يمكن تسميته “السند الصوفي” الذي يحاكي السند الحديثي الذي مكَّن علماء الحديث من تتبُّع سيرة الرواة والرجال وإبعاد المندسين وبالتالي النأي بالسنة النبوية عن كل ما يشوبها أو يطعن في عصمتها.

“جدَّدت جمعية العلماء تمسّكها بشعار: “الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا”، وثمّنت من جهة أخرى قرار ترسيم الأمازيغية لغة وطنية ورسمية، ولم يخف الأستاذ قسوم رغبة الجمعية في كتابة الأمازيغية بالحرف العربي الذي سيزيد من تعميق صلتها بالرافد الإسلامي والعربي.”

6- أشار بعض المتحدثين إلى أن الحركة السنوسية والحركة الإصلاحية في الجزائر التي قادتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يجمعهما مصدرٌ واحد وهو الإسلام وهذا رغم اختلافهما في الوسائل لأن الوسائل يحكمها معيار التطور والتجدد، فقد زادت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين على الحركة السنوسية بتطعيم العمل الفكري بعمل دعوي صحفي وجمعوي وجواري اقتضته الظروف، والذي تجلى في المجلات والجمعيات والتجمعات التي بادرت بها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وميزها أكثر التركيز على العمل الدعوي الإسلامي المؤسساتي بافتتاح دار الحديث بتلمسان التي تولى إدارتها الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله، والتي لا تزال إلى اليوم تؤدي وظيفتها العلمية بدعم من الدولة الجزائرية وبرعاية من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

7-أثارت إشكالية علاقة الحركة السنوسية ببعض الحركات المشرقية، ومنهما حركة الشيخ محمد عبده والشيخ الأفغاني إسلاميا، والعمل الفكري والدعوي الذي قام به عبد الرحمن الثعالبي جزائريا جدالا في الملتقى، وحُسم الجدال بالاتفاق على وحدة المصدر الإسلامي الذي يجمع هذه الحركات جميعا رغم الاختلاف الحاصل على مستوى التصوُّر، وبالاتفاق أيضا على أن فارق الزمان هو عامل تنوع ولا ينبغي أن يكون بأي حال من الأحوال عامل تفريق بين الحركات الإسلامية.

8- تجاوز المشاركون في الملتقى الجدل المتعلق ببعض القضايا الفرعية في الحركة التجديدية السنوسية من حيث انتسابها الجغرافي، وأكدوا على أن الحركة تنتسب إلى المجال الجغرافي المغربي العربي، والدليل على ذلك تواجدها وانتشارها في المنطقة المغاربية والعربية، وحتى خارج الحدود العربية كما تذهب إلى ذلك بعض الدراسات المعاصرة.

9- هناك التفاتة إنسانية كريمة أبكت كثيرين وتركت انطباعا حسنا لدى الحضور، وهو الحرص الكبير الذي أبداه سعادة والي ولاية تلمسان بحضوره جلسة الافتتاح وجزءا من الجلسات العلمية وجلسة الاختتام، وخاصة صعوده إلى المنصة في الوقت الذي كان فيه مناضل كفيف في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يلقي قصيدته في الإشادة بأعمال الملتقى، حيث توجه إليه سعادة الوالي وصافحه وقبل جبينه وألبسه “برنوسه” الذي أهدته إياه جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

10- مما تمخض عن ملتقى الشيخين الثالث بتلمسان التأكيد على ضرورة تنقل الملتقى داخل ولايات الوطن من أجل تأكيد الطابع الوطني للملتقى الذي يمثل -كما جاء في هذه التوصيات- مكسبا إسلاميا وجزائريا يجب أن لا يُحصَر أو يقتصر على منطقة معينة.

11- شاركت في الملتقى وجوهٌ علمية مغاربية بارزة، ومنهم صديقي، الوزير الأسبق للشؤون الدينية بالجمهورية التونسية والأستاذ بجامعة الزيتونة نور الدين الخادمي، الأصولي المدقق والباحث المحقق، الذي أبدع وأمتع، وصال وجال وشكل حضوره قيمة مضافة للملتقى، ومنهم الأستاذ علي العشي من جامعة الزيتونة والأستاذ سمير بودينار من المغرب، وبذلك تحقق البعد المغاربي للملتقى رغم غياب الدكتور محمد مختار ولد أمباله من موريتانيا والدكتور ونيس مبروك من ليبيا.

12- تزامنت أشغال الملتقى بغيث نافع عميم على تلمسان وهذه بركة السماء إلى الأرض “وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته وهو الولي الحميد”، فنرجو أن نكون كالغيث حيثما وقع نفع.

مقالات ذات صلة