الرأي

ثلاث نظرات متقاطعة

ثلاث نساء تقاطعت نظراتهن حول الأدب الجزائري، ومهدت للتأسيس للدراسة الشاملة لهذا الأدب في روسيا والجمهوريات الاسلامية للاتحاد السوفييتي سابقا. الأولى هي حفيدة ستالين، غالينا جوغاشفيلي، التي تزوّجت من جزائري اسمه حسين بن ساعد، واهتمت بجمالية الرواية الجزائرية وبمشكلة الهوية في أعمال الروائيين الجزائريين. والثانية هي سفيطلانا براجوغينا، التي اختصت بدراسة المواقف الايديولوجية للكتّاب الجزائريين، وقضايا تصنيف الأدب في الجزائر والمغرب العربي بوجه عام. أما الثالثة فهي إيرينا نيكيفوروفا، وهي عالمة مختصة في الآداب الافريقية، كانت تشرف في معهد ماكسيم غوركي للأدب العالمي على توجيه الأبحاث في الأدب الخاص بالقارة الإفريقية. وقد وضعت عدة دراسات خاصة بالأدب الجزائري والمغاربي والإفريقي نذكر منها: “الرواية الجزائرية المعاصرة”، وكتيّب “أدب النهضة الوطنية”. وهو يتناول إبداع الكتّاب المعاصرين في المغرب وتونس والجزائر، وكتاب “الرواية الإفريقية” الذي أفردت فيه فصلا مطوّلا لسبل تطور الرواية في افريقيا الشمالية.

إن إسهام إيرينا نيكيفوروفا هام جدا وأساسي لفهم تشكّل نوع الرواية في بلدان المغرب العربي ودراسة خصائصه. فقد درست هذه الباحثة المقدمات التاريخية والاجتماعية والثقافية والنفسية لظهور الرواية في هذه المنطقة وأولت اهتماما خاصا لارتباط المصير الفردي في الرواية بمصائر المجتمع.

تربط نيكيفوروفا ظهور فن الرواية في الجزائر بتصاعد الوعي الوطني في الأربعينيات والستينيات، وتربطه أيضا بظاهرة في التاريخ الأدبي في البلد، وتحديدا بنشاط كتّاب المقالات المعبّرين باللغة الفرنسية، وخاصة مولود فرعون. وتعتبر نيكيفوروفا أن الأعمال الأدبية الجزائرية الأولى أهتمت أصلا بتصوير ظروف الحياة ونمط المعيشة والعادات والتقاليد، وهو ما طمس شخصية البطل فيها. وتلاحظ نيكيفوروفا داخل الكتابة عن العادات منهجين. الأول هو المنهج الواقعي القريب من المدرسة الطبيعية، ويمثله أفضل تمثيل مولود فرعون في عمله “نجل الفقير” و”أيام القبائل”، والثاني هو المنهج الرومانسي الذي ينظر إلى العلاقات التقليدية نظرة مثالية، والمتمثل خاصة في رواية “الربوة المنسية” لمولود معمري، ورواية “حبّة من الرحى” لمالك عواري. وبهاتين الروايتين تنتهي في نظر نيكيفوروفا مرحلة الكتابة عن العادات. وفي تحليلها للرواية الجزائرية المعبرة باللغة الفرنسية أثناء الثورة وبعدها تلاحظ نيكيفوروفا التغيير الجذري في إشكالية هذه الرواية وفي أدواتها الفنية. وتشير في الوقت نفسه إلى أن الأسماء البارزة في هذه الفترة، محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد، عبّروا عن عصرهم وموقفهم منه بطرق مختلفة.

وتسجل الباحثة انتقال محمد ديب ابتداء من رواية “من ذا الذي يذكر البحر” إلى رؤية جديدة للعالم وطريقة جديدة في الكتابة وتقول: “إنه أصبح ينطلق من مواقف وجودية، ويشهد على ذلك، بقوة مقنعة، بطله الجديد الذي هو في جوهره وعاء فارغ يعربد فيه باستمرار رعب قاتم، وخليّة بسيطة تسجل كابوس وعداوة العالم المبهم”.

وتعتبر إيرينا نيكيفوروفا إبداع مالك حداد “طفرة جديدة في الرواية الواقعية الجزائرية”. فأعماله تنقل واقعا جديدا تماما مقارنة بمن سبقه من كتّاب. وهي مكرّسة للعالم الداخلي للبطل المثقف، وموضوعها هو الحياة الروحية لشخصية “تنطوي على قدرة فائقة على معارضة هجوم القوى الهدّامة والمعادية للإنسان”

وتشبّه إيرينا نيكيفوروفا كاتب ياسين “بالجناح الخافق” للأدب الجزائري، وهي إذ تشير إلى كون الفصول الأولى من رواية “نجمة” مثال لتجسيد مبادئ التصوير الواقعي، إلا أنها تؤكد في الوقت ذاته أن السرد في بقية فصول الرواية قريب من تقاليد الكتابة الرومنسية: المبالغة في “تفرّد الشخصيات، مونولوجات داخلية حول المواضيع نفسها، البنية الدائرية، تطور الأحداث بالعودة إلى مشاهد نفسها”.

لم تتطرق نيكيفوروفا في أبحاثها إلى الأدب الجزائري المعبّر باللغة العربية، إلا أنها أشارت في كتابها “الرواية الإفريقية”، الصادر سنة 1977، إلى أن الرواية العربية في الجزائر لم ترق إلى مستوى الرواية المصرية أو التونسية، وأنها بدأت تكتسب ملامحها. وأعتبرت رواية “ريح الجنوب” لعبد الحميد بن هدوڤة رواية “تنويرية”. وهي تشهد في رأي الباحثة على وجود نوع آخر مختلف تصنيفيا للرواية الجزائرية مما يدل على خصوصية تحدد أصناف الوعي الاجتماعي في بلدان شمال افريقيا.

ثلاث نظرات نسائية متقاطعة في الأدب الجزائري مهدّت منذ الستينيات لنظرة أعمق في مسائل جوهرية في سيرورة هذا الأدب: مثل التناسب بين التقليد والتجديد، والتأريخ لهذا الأدب، ودراسته من الناحية التصنيفية، ومقارنته بآداب أخرى، وتحليله كأدب موجّه للنخبة وأدب موجّه للجماهير.

مقالات ذات صلة