الرأي

جامع الجزائر الأعظم.. آيا صوفيا الجزائر

محمد بوالروايح
  • 5321
  • 12
ح.م

نسمع هنا وهناك من المرجفين في المدينة من يقول إن جزائر العهد الجديد مقبلة على انقلاب قيمي رهيب، شعاره التضييق على الحريات وتقزيم دور الدين في الحياة الاجتماعية انطلاقا من تقزيم دور المساجد. وقد اتسعت دائرة هذه الأراجيف مع الانتشار الرهيب لجائحة كورونا، إذ زعم بعض الرويبضة أن قرارات الغلق الاضطراري للمساجد بسبب هذه الجائحة إنما هي شكلٌ من أشكال المنع المتدرج للمساجد من أداء رسالتها التنويرية في المجتمع الجزائري خدمة لما سموه “اللوبي العلماني” الذي يوشك أن يتحكم بمفاصل الدولة والمجتمع. وازدادت حماقات هؤلاء وجهالاتهم بوصف من يسهرون على تطبيق إجراءات الحجر الصحي بأنهم يتخذونها مطية يستهدفون من ورائها الإسلام وكل رموز هذا الدين وبأنهم يشملهم قول الله تعالى: “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وسعى في خرابها”.

إن هذه الأراجيف لا أساس لها من الصحة، فليس بين الجزائريين أحفاد طارق بن زياد وعبد الحميد بن باديس والأمير عبد القادر من لا يعمل لصالح الإسلام ولرفعة هذه الدين وشموخ صرحه ورسوخ تعاليمه. إن الجزائر كانت وستبقى قلعة الإسلام الصامدة التي يتحصَّن بها الجزائريون ضد كل الدعوات المُغرضة والبدع المضللة والطوائف الدخيلة.

شعرتُ كغيري من الجزائريين بسعادة غامرة وأنا أشاهد جامع الجزائر الأعظم وقد لبس أبهى حلله وتهيأ لاستقبال رواده في الفاتح من نوفمبر، فلهذا التزامن رمزيةٌ تاريخية كبيرة لا يدركها من على شاكلة من وصفهم “إيليا أبو ماضي”: إن شرَّ الجناة في الأرض نفس.. تتوقى قبل الرحيل الرحيلا.. وترى الشوك في الورود وتعمى.. أن ترى الندى فوقها إكليلا”.

شهد العالم قبل أسابيع افتتاح مسجد “آيا صوفيا” في مدينة إسطنبول، حاضرة البحر، وفرح المسلمون -إلا من أبى- بهذا الحدث التاريخي الذي يوصلهم بماضيهم ويربطهم بتراثهم وحق لهؤلاء أن يفرحوا: “قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون”. لقد عاش الجزائريون فرحة افتتاح مسجد آيا صوفيا كإخوانهم في العالم الإسلامي، وهم يتشوقون إلى فرحة أخرى بافتتاح جامع الجزائر الأعظم في يوم الجزائر الأغر “غرة أول نوفمبر”.

إن توقيت افتتاح الجامع الأعظم بيوم الاحتفال بالذكرى السادسة والستين لاندلاع الثورة الجزائرية المظفرة يحمل رسائل كثيرة، منها أن المرجفين الذين يراهنون على القطيعة بين الجزائر وعمقها وأصالتها الإسلامية واهمون وهم ضحايا الفكر الدخيل المعادي للقيم الإسلامية والوطنية، ومنها أن تزامن الافتتاح مع اقتراب نهاية كورونا رسالة إلى المشككين بأن المساجد ستعود كما كانت عامرة بالذِّكر، وبأنها ستظل معالم للهدى وأماكن للتقى لا يضرها عبث العابثين واستهتار المستهترين ما دام أن بها من أثنى الله عليهم بقوله: “في بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه، يسبَّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب”.

لم يجد المرجفون الذين مردوا على السوداوية المقيتة من سبيل لإفساد فرحة الجزائريين باقتراب افتتاح جامع الجزائر الأعظم إلا صورة امرأة التقطتها الكاميرا فتشبَّثوا بها ونسجوا حولها أباطيل وأضاليل كثيرة تضاهي ما نسجوه بشأن كورونا. لم يجد هؤلاء المرجفون شيئا لافتا للنظر، يستحق الذكر إلا هذه الصورة التي لم نتأكد بعد من صحتها. إن الغيرة على الإسلام لا تكون بالصد عن السبيل وبلعن الظلام بل بإيقاد شمعة، تنير دروب السالكين وتشرح صدور العالمين، فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول لبعض الصحابة الذين استشاطوا غضبا لمشهد الأعرابي الذي بال في المسجد وقد همّوا ليقعوا فيه: “دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين”. إن تصرُّف بعض المرجفين -بمناسبة زيارة الرئيس للجامع الأعظم- حيال صورة عابرة والغفلة عن المشاهد الجميلة الأخرى المؤسرة، يشبه -مع اعتبار الفارق- صورة الطفل القتيل الذي لم يلفت نظر مصوره إلا صورة القلادة الذهبية التي يرتديها ولم يعر اهتمامه إلا السؤال عن حكمها في الشريعة الإسلامية ومآل من مات وفي عنقه مثل هذه القلادة، ولكن في المقابل لم تُثره ولم تهزّه ولم تلفت نظره صورة الطفل وقد مزقت رصاصة غادرة جسده كل ممزق.

جامع الجزائر الأعظم أو آيا صوفيا الجزائر -كما أحب أن أسميه- هو معلم إسلامي، يضاف إلى المعالم الإسلامية الكثيرة التي أقيمت في الجزائر منذ الفتح الإسلامي إلى الوجود العثماني إلى الاحتلال الفرنسي، فللمسجد الكبير في قلب الجزائر العاصمة الذي بُني سنة 1666 قصة جميلة تستهوي كل غيور على الإسلام، فقد أقيمت في هذا المسجد أول صلاة عيد فطر وأم المصلين آنذاك الشيخ الإمام “قارة باش أفندي”.

كل هذا معروف يعرفه العام والخاص، ولكن ما لا يعرفه كثيرون هو أن هذا المسجد كان عنوانا للتسامح الديني ونبذ ثقافة الكراهية، فقد تعاون على بنائه المسلمون واليهود والمسيحيون، وليس هذا بغريب، فقد كانت الجزائر العثمانية مثالا للتعايش المشترك أساسه حماية دور العبادة: المسجد والكنيسة والمعبد اليهودي، مع أن توجُّه الدولة توجُّهٌ إسلامي قائم على عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد السالك.

يقول “سعد الله” المهتم بالتاريخ العثماني والأندلسي في الجزائر، عن قصة بناء الجامع الكبير: “ما لا يعرفه غالبية الجزائريين عن الجامع الجديد، أن أهم المهندسين المعماريين والمقاولين الذين أنجزوه عام 1666م هما: الأسير النصراني، الذي كان يلقب برمضان العلج ويوصَف رسميا في الوثائق بـ(معلم البِناء النصراني)، والحاج إبراهيم بن المهندس وخبير الري الأوسطي موسى الحميري الثغري الأندلسي”.

افتتح مسجد “آيا صوفيا” في تركيا ليكون منارة إسلامية شامخة في تركيا، وسيفتتح جامع الجزائر الأعظم ليكون آيا صوفيا الجزائر في الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، واصلا الماضي بالحاضر، واسطة لالتقاء الأجيال والحضارات، جامعا للشمل، نبراسا للعلم، عنوانا للسموِّ الروحي وطاردا لكل أشكال الغلو الديني.

إن جامع الجزائر الأعظم بمرافقه الدينية والثقافية يعيد إلى الأذهان صورة المساجد التاريخية التي كانت مكانا للعبادة ومركزا للقيادة ورمزا للسيادة. إنه المعلم الإسلامي المتكامل الذي ستشهد الجزائر بافتتاحه نهضة فكرية وصحوة إسلامية تقوِّي الرابطة الدينية والوطنية، تعزز أواصر الأخوَّة وتقضي على كل مظاهر الفرقة. سيكون جامع الجزائر أو آيا صوفيا الجزائر نسخة مجددة للجامع الأخضر وجوامع الجزائر التي كانت حضنا للإسلام وحصنا للوطن ضد المتآمرين على عقيدة التوحيد ووحدة الوطن.

سيكون جامع الجزائر الأعظم أو آيا صوفيا الجزائر علاوة على دوره الوعظي قبلة للمهتمين بالتراث الإسلامي وفن العمارة الإسلامية، سيكون بالمختصر المفيد مدرسة إسلامية جامعة، يجد فيها كل من يرتادها المعين الذي لا ينضب الذي يروي ظمأه الروحي والثقافي.

لن أختتم هذا المقال من دون التعريج على مسألة على قدر كبير من الأهمية، وهي أنه ليس من المصادفة أن يتزامن يوم افتتاح جامع الجزائر الأعظم أو آيا صوفيا الجزائر مع يوم الجزائر الأغر (أول نوفمبر)، فبين قيم الإسلام وقيم نوفمبر عقدٌ لا ينفرط، عقدٌ صاغه الآباء والأجداد وينبغي أن يحافظ عليه الأحفاد، جيلا بعد جيل، فالإسلام أمانة الله والجزائر أمانة الشهداء فلنجعل شعارنا قول عبد الحميد بن باديس: “لمن أعيش؟ أعيش للإسلام والجزائر”.

مقالات ذات صلة