جبهة التحرير أقوى من العدم
لم تتمكن الحملة الانتخابية من إثارة اهتمام المواطنين. وبقيت الأجهزة السياسية تنشط في الفراغ، وكأن الأمر لا يهم إلا مجموعة قليلة من الجزائريين.
أعلنت جبهة التحرير الوطني مسبقا، وبكل اعتزاز، عن فوزها في أربع بلديات خلال الانتخابات المحلية التي ستجرى في 29 نوفمبر القادم. وقال مسؤول في الجبهة أن حزبه سيكون الوحيد الذي سيقدم مرشحين في أربع بلديات، بعد أن عجز الخصوم عن تقديم منافسين، سواء من أحزاب أو من قوائم مستقلة. وأضاف المسؤول: في هذه البلديات الأربع، لا يوجد إلا الله، والشعب، وجبهة التحرير الوطني.
وتمكنت الجبهة أن تفوز على الفراغ، دون أن تخوض معركة ودون أن تجد منافسا لها. وأكدت أنها أقوى من العجم، وأحسن من لا شيء. وفعلا، فإن جبهة التحرير عملت لمدة طويلة من أجل القضاء على أي بديل يمكن أن يصل إلى درجة من النضج ليتولى شؤون البلاد. ونجحت في ذلك، فهي تنتصر اليوم على أطلال السياسة، في مقبرة النشاط السياسي، الذي يتزعمه خالد بونجمة والسيدة الشالابية وغيرهم من المتطفلين على الساحة السياسية.
ويشكل هذا الانتصار الذي حققته جبهة التحرير الوطني هزيمة كبرى للجزائر، التي لم تتمكن من تنظيم نقاش سياسي محترم ولا أن تلد طبقة سياسية تملأ الساحة، ولا أن تصنع تقاليد سياسية جديدة تشرف البلاد وأهلها. واعترف بذلك الأمين العام لجبهة التحرير الوطني نفسه، حيث قال السيد عبد العزيز بلخادم أنه سيعمل لمحاربة “الشكارة”، معترفا أن الرشوة اجتاحت صفوف حزبه وأصبحت تشكل الوسيلة الأولى للوصول إلى المناصب. ومن جهته، قال غريمه في التجمع الوطني الديمقراطي، السيد أحمد أويحيى، بمناسبة الانتخابات التشريعية في ماي الماضي، أن المافيا أصبحت تحكم البلاد. وما عسى أن نضيف على كلام قادة أقوى حزبين في البلاد، مع العلم أن الرجلين تناوبا على رئاسة الحكومة منذ سبع سنوات؟
إن الجزائر مضطرة إلى متابعة المنافسة الكبرى بين جبهة التحرير وحزب خالد بونجمة، بين جبهة التحرير والصفر، ولا بد أن نعترف أن جبهة التحرير أحسن من العدم.
ويؤكد كلامهما أن الأحزاب تحولت إلى مدارس ابتدائية يتكون فيها رجال المافيا قبل أن يتحولوا إلى ميادين أخرى في الإدارة أو في تسيير شؤون المواطنين. ومع هؤلاء، فإن معنى الانتخاب يتغير جذريا، وبدل أن تكون العملية الانتخابية أسمى نقطة في الحياة الديمقراطية، وفرصة لاختيار أحسن المسؤولين بكل حرية، بعد منافسة بين البرامج السياسية والخيارات الاقتصادية والمواجهات الإيديولوجية، بدل كل هذا، تصبح العملية الانتخابية مسابقة للتحايل على الآخرين من أجل اكتساب ورقة الدخول إلى دواليب النظام.
ولا شك أن هذا ما يفسر علاقة الجزائريين بالعملية الانتخابية. فنجد من جهة أن حرية الترشح تبقى مضمونة إلى حد ما، وأن حرية التصويت خلال الانتخابات تبقى حرة إلى حد بعيد، ومن الصعب لأي طرف أن يفرض على الجزائريين اختيار هذه القائمة أول تلك. ولعل ذلك ما يفسر حيرة المراقبين الدوليين الذي لا يجدون أثرا للتزوير التقليدي رغم أن النتائج تبدو دائما مفبركة.
ورغم هذه الحرية النسبية في الترشح والاختيار، نجد أن الاهتمام بالانتخابات يقتصر على بعض الدوائر المعروفة في كل المدن والقرى، من منشطي الأحزاب والمنظمات المحلية وما يسمى بالمجتمع المدني وحاشية الإدارة، منهم من يبقى وفيا لجهاز إداري أو اقتصادي أو أمني، ومنهم من يطير من حزب إلى حزب بحثا عن مكان لائق. أما عامة الناس، فإنهم يتابعون العملية من بعيد، إما بسخرية أو بحزن وأسى، لأنهم يعرفون أنها ستؤدي في نهاية المطاف إلى تكريس تصرفات لم تنفع في الماضي ولن تنفع في المستقبل.
وهنا تكمن عقدة الانتخاب في الجزائر. فمن جهة، نجد أن الوضع الحالي لا يسمح للمواطنين أن يشاركوا في الحياة السياسية. ولكن دون مشاركة المواطنين، لا يمكن تغيير الوضع. ويبقى التساؤل: من أين تبدأ نقطة الانطلاق لتغيير الوضع؟ هل مشاركة المواطن تلد التغيير، أم أن التغيير يلد مشاركة المواطن؟
وفي انتظار ذلك، فإن الجزائر مضطرة إلى متابعة المنافسة الكبرى بين جبهة التحرير وحزب خالد بونجمة، بين جبهة التحرير والصفر، ولا بد أن نعترف أن جبهة التحرير أحسن من العدم.