الرأي
مساهمة..

جدال حول هوية قسنطينة‬

محند أرزقي فراد
  • 6359
  • 43

أثارت مقاطعة الفنانيْن الأمازيغيين‮ ‬يدير ولونيس آيت منڤلات،‮ ‬لنشاط برنامج‮ ” ‬قسنطينة عاصمة الثقافة العربية‮” ‬ردودَ‮ ‬أفعال جدالية لبعض المثقفين،‮ ‬منهم من أكـّد عروبة قسنطينة،‮ ‬ومنهم من أكـّد أمازيغيتها،‮ ‬وكلاهما قدّم رؤية تفتيتية بدل تقديم صورة شاملة‮. ‬

‭ ‬وقبل أن أبدي‮ ‬رأيي‮ ‬في‮ ‬هذا الجدال،‮ ‬أودّ‮ ‬في‮ ‬البداية أن أعلق على موقف الفنانين المذكورين‮. ‬فلئن كنت أقرّ‮ ‬لهما بالحق في‮ ‬اختيار ما‮ ‬يناسبهما من المواقف،‮ ‬فإنني‮ ‬لا أخفي‮ ‬أسفي‮ ‬على عدم مشاركتهما في‮ ‬هذه التظاهرة الثقافية الكبيرة،‮ ‬باعتبارها فرصة سانحة تمكـّن الجزائريين أوّلا من تذوّق إبداعات عمالقة الأغنية القبائلية الأمازيغية،‮ ‬ولتمتين اللحمة بين المكوّنين العربي‮ ‬والأمازيغي‮ ‬في‮ ‬هويتنا الجزائرية‮. ‬كما أنها فرصة تتيح لهما أداء دور‮ “‬السفير‮” ‬لتقديم صورة شاملة عن التنوع الثقافي‮ ‬الجزائري‮ ‬للعالم العربي،‮ ‬الذي‮ ‬يعتبر‮- ‬تاريخيا‮- ‬عمقا استراتيجيا لشمال إفريقيا منذ العهود القديمة‮. ‬

وبالنسبة للجدال القائم حول ماهية هُوية مدينة قسنطينة‮ (‬أهي‮ ‬أمازيغية أم عربية؟‮) ‬فأخشى أن‮ ‬يكرّس علاقة تصادمية بين البعدين الأمازيغي‮ ‬والعربي‮ ‬في‮ ‬واقعنا الثقافي،‮ ‬نتيجة ترجيح المقاربة الإيديولوجية الضيّقة على المقاربة المعرفية‮. ‬وكان من المفروض أن‮ ‬يختفي‮ ‬هذا الطرح التنافري،‮ ‬المنجب للبغضاء والشنآن بين أبناء الوطن الواحد،‮ ‬مباشرة بعد تعديل الدستور سنة‮ ‬2002م،‮ ‬الذي‮ ‬أدرج الأمازيغية لغة وطنية ثانية‮. ‬

لا أدري‮ ‬كيف سمح البعض لأنفسهم باختزال تاريخ قسنطينة في‮ ‬المكوّن العربي‮ ‬فقط؟ ولا أفهم كيف تجرّأ البعض الآخر على اختزال المدينة في‮ ‬المكوّن الأمازيغي‮ ‬فقط؟ لأن الحقيقة تؤكد أن المكوّنين معا‮ ‬يشكلان هوية المدينة‮. ‬وإذا أردنا أن نقارن مقارنة مادية بين المكوّنين الأمازيغي‮ ‬والعربي‮ ‬في‮ ‬المدينة،‮ ‬فلا شك أن الكفة ستميل كل الميل لصالح الثقافة العربية باعتبارها ثقافة‮ ‬غالبة‮. ‬لكن عندما‮ ‬يتعلق الأمر بمسألة الهوية والشخصية،‮ ‬فلا‮ ‬يصحّ‮ ‬أن نهمل المكوّن الآخر الواقع في‮ ‬ظل المكوّن القويّ،‮ ‬لما له من رمزية ثقافية وهوياتيّة‮. ‬

علينا أن نتحلى بالروح العلمية وأن نقدم رؤية المؤرخ الموضوعية في‮ ‬تعاملنا مع تاريخ قسنطينة،‮ ‬وعلينا أن تستلهم الحكمة من موقف رائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس‮ (‬وهو ابن قسنطينة‮) ‬خادم الإسلام والعربية،‮ ‬الذي‮ ‬أكـّد انتماءه الأمازيغي،‮ ‬حينما وقـّع مقاله الموسوم‮: “‬ما جمعته‮ ‬يد الله لا تفرقه‮ ‬يد الشيطان‮” ‬باسم عبد الحميد بن باديس الصنهاجي‮ (‬وصنهاجة قبيلة كبيرة من قبائل الأمازيغ‮). ‬

ولعل من المجالات التي‮ ‬تجلت فيها‮ “‬الرؤية الثاقبة‮” ‬للحركة الإصلاحية الفكرية الجزائرية في‮ ‬عهد الاستعمار الفرنسي،‮ ‬إبرازها للمكوّن الأمازيغي‮ ‬في‮ ‬تاريخ الجزائر لاعتبارات علمية وسياسية،‮ ‬هدفها بعث الروح الوطنية في‮ ‬صفوف الجزائريين‮. ‬فقد أفاض كل من مبارك الميلي،‮ ‬وأحمد توفيق المدني،‮ ‬وعبد الرحمن الجيلالي،‮ ‬ومحمد علي‮ ‬دبوز،‮ ‬في‮ ‬الحديث عن الحقبة الأمازيغية في‮ ‬كتبهم‮.‬

وبالإضافة إلى ذلك،‮ ‬أدرج بعض شعراء الحركة الإصلاحية،‮ ‬المكوّن الأمازيغي‮ ‬ضمن اهتماماتهم التاريخية لنفس الاعتبارات،‮ ‬أذكر منهم علي‮ ‬سبيل المثال الشيخ أحمد سحنون‮ ‬،‮ ‬الذي‮ ‬أشار إلى البعد الأمازيغي‮ ‬في‮ ‬قصيدة له بعنوان‮: “‬العامل الجزائري‮” ‬حين قال‮: ‬

أنا ابن الجزائر من‮ <> ‬لـه مثــل آبائـــيهْ؟

أنا ابن الأمازيغ‮ ‬لن‮ <> ‬أذل لأعــدائــــيهْ

وهكذا لا شيء‮ ‬يبرّر التنكر للبعد الأمازيغي‮ ‬في‮ ‬تاريخ قسنطينة‮. ‬ومهما كان حماسنا للقومية العربية،‮ ‬فلا‮ ‬يجب أن نقفز على التاريخ‮. ‬فهناك من الطرائق المعقولة ما‮ ‬يمكـّنـنا من خدمة مشروع‮  ‬الوحدة العربية،‮ ‬دون أن نتنكر للخصوصية المحلية،‮ ‬بدليل أن‮  ‬إخواننا المشارقة الحاضنين لمشروع القومية العربية بشكل كبير،‮ ‬قد عضوا بالنواجذ‮  ‬على عمقهم التاريخيّ‮. ‬فقد جعل المصريون حضارة الفراعنة رمزا من رموز الدولة،‮ ‬كما تبوّأت الحضارة الفينيقية مقاما محمودا في‮ ‬هوية لبنان،‮ ‬أمّا في‮ ‬العراق فحدّث ولا حرج،‮ ‬إذ نجد الحضارات القديمة‮ (‬السومرية والكلدانية والبابلية والآشورية‮) ‬علامة بارزة في‮ ‬ثقافتها‮.  ‬

إن التاريخ كالنهر،‮ ‬هو سيل متدفق من الأحداث،‮ ‬فلا‮ ‬يمكن تجزئته وتفتيته إلى منبع وإلى مصب،‮ ‬فالنهر نهر بمنبعه ومصبه‮. ‬ومدينة قسنطينة هي‮ ‬قسنطينة ببعديْها الأمازيغي‮ ‬والعربي‮. ‬واختيارها عاصمة للثقافة العربية لسنة‮ ‬2015م،‮ ‬هي‮ ‬فرصة سانحة لتمتين اللحمة مع وعائنا الحضاري‮ ‬الأكبر،‮ ‬وعاء الحضارة العربية الإسلامية التي‮ ‬جعل الله لها التنوع الثقافي‮ ‬وتعدد الألسن آية من آياته‮.‬

مقالات ذات صلة