جدال حول هوية قسنطينة
أثارت مقاطعة الفنانيْن الأمازيغيين يدير ولونيس آيت منڤلات، لنشاط برنامج ” قسنطينة عاصمة الثقافة العربية” ردودَ أفعال جدالية لبعض المثقفين، منهم من أكـّد عروبة قسنطينة، ومنهم من أكـّد أمازيغيتها، وكلاهما قدّم رؤية تفتيتية بدل تقديم صورة شاملة.
وقبل أن أبدي رأيي في هذا الجدال، أودّ في البداية أن أعلق على موقف الفنانين المذكورين. فلئن كنت أقرّ لهما بالحق في اختيار ما يناسبهما من المواقف، فإنني لا أخفي أسفي على عدم مشاركتهما في هذه التظاهرة الثقافية الكبيرة، باعتبارها فرصة سانحة تمكـّن الجزائريين أوّلا من تذوّق إبداعات عمالقة الأغنية القبائلية الأمازيغية، ولتمتين اللحمة بين المكوّنين العربي والأمازيغي في هويتنا الجزائرية. كما أنها فرصة تتيح لهما أداء دور “السفير” لتقديم صورة شاملة عن التنوع الثقافي الجزائري للعالم العربي، الذي يعتبر- تاريخيا- عمقا استراتيجيا لشمال إفريقيا منذ العهود القديمة.
وبالنسبة للجدال القائم حول ماهية هُوية مدينة قسنطينة (أهي أمازيغية أم عربية؟) فأخشى أن يكرّس علاقة تصادمية بين البعدين الأمازيغي والعربي في واقعنا الثقافي، نتيجة ترجيح المقاربة الإيديولوجية الضيّقة على المقاربة المعرفية. وكان من المفروض أن يختفي هذا الطرح التنافري، المنجب للبغضاء والشنآن بين أبناء الوطن الواحد، مباشرة بعد تعديل الدستور سنة 2002م، الذي أدرج الأمازيغية لغة وطنية ثانية.
لا أدري كيف سمح البعض لأنفسهم باختزال تاريخ قسنطينة في المكوّن العربي فقط؟ ولا أفهم كيف تجرّأ البعض الآخر على اختزال المدينة في المكوّن الأمازيغي فقط؟ لأن الحقيقة تؤكد أن المكوّنين معا يشكلان هوية المدينة. وإذا أردنا أن نقارن مقارنة مادية بين المكوّنين الأمازيغي والعربي في المدينة، فلا شك أن الكفة ستميل كل الميل لصالح الثقافة العربية باعتبارها ثقافة غالبة. لكن عندما يتعلق الأمر بمسألة الهوية والشخصية، فلا يصحّ أن نهمل المكوّن الآخر الواقع في ظل المكوّن القويّ، لما له من رمزية ثقافية وهوياتيّة.
علينا أن نتحلى بالروح العلمية وأن نقدم رؤية المؤرخ الموضوعية في تعاملنا مع تاريخ قسنطينة، وعلينا أن تستلهم الحكمة من موقف رائد النهضة الجزائرية عبد الحميد بن باديس (وهو ابن قسنطينة) خادم الإسلام والعربية، الذي أكـّد انتماءه الأمازيغي، حينما وقـّع مقاله الموسوم: “ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان” باسم عبد الحميد بن باديس الصنهاجي (وصنهاجة قبيلة كبيرة من قبائل الأمازيغ).
ولعل من المجالات التي تجلت فيها “الرؤية الثاقبة” للحركة الإصلاحية الفكرية الجزائرية في عهد الاستعمار الفرنسي، إبرازها للمكوّن الأمازيغي في تاريخ الجزائر لاعتبارات علمية وسياسية، هدفها بعث الروح الوطنية في صفوف الجزائريين. فقد أفاض كل من مبارك الميلي، وأحمد توفيق المدني، وعبد الرحمن الجيلالي، ومحمد علي دبوز، في الحديث عن الحقبة الأمازيغية في كتبهم.
وبالإضافة إلى ذلك، أدرج بعض شعراء الحركة الإصلاحية، المكوّن الأمازيغي ضمن اهتماماتهم التاريخية لنفس الاعتبارات، أذكر منهم علي سبيل المثال الشيخ أحمد سحنون ، الذي أشار إلى البعد الأمازيغي في قصيدة له بعنوان: “العامل الجزائري” حين قال:
أنا ابن الجزائر من <> لـه مثــل آبائـــيهْ؟
أنا ابن الأمازيغ لن <> أذل لأعــدائــــيهْ
وهكذا لا شيء يبرّر التنكر للبعد الأمازيغي في تاريخ قسنطينة. ومهما كان حماسنا للقومية العربية، فلا يجب أن نقفز على التاريخ. فهناك من الطرائق المعقولة ما يمكـّنـنا من خدمة مشروع الوحدة العربية، دون أن نتنكر للخصوصية المحلية، بدليل أن إخواننا المشارقة الحاضنين لمشروع القومية العربية بشكل كبير، قد عضوا بالنواجذ على عمقهم التاريخيّ. فقد جعل المصريون حضارة الفراعنة رمزا من رموز الدولة، كما تبوّأت الحضارة الفينيقية مقاما محمودا في هوية لبنان، أمّا في العراق فحدّث ولا حرج، إذ نجد الحضارات القديمة (السومرية والكلدانية والبابلية والآشورية) علامة بارزة في ثقافتها.
إن التاريخ كالنهر، هو سيل متدفق من الأحداث، فلا يمكن تجزئته وتفتيته إلى منبع وإلى مصب، فالنهر نهر بمنبعه ومصبه. ومدينة قسنطينة هي قسنطينة ببعديْها الأمازيغي والعربي. واختيارها عاصمة للثقافة العربية لسنة 2015م، هي فرصة سانحة لتمتين اللحمة مع وعائنا الحضاري الأكبر، وعاء الحضارة العربية الإسلامية التي جعل الله لها التنوع الثقافي وتعدد الألسن آية من آياته.