-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

جنين.. والسماء والطارق

بقلم: عيسى قراقع
  • 883
  • 0
جنين.. والسماء والطارق

مدينة جنين، مدينة الجنان والماء والينابيع الغزيرة، مدينة كنعانية، تقع في شمال الضفة الغربية المحتلة، تطل على غور الأردن من الشرق ومرج ابن عامر من الغرب من جهة الشمال، وظلت هاجسا لكل الغزاة الذين وصلوها، يلتقي فيها السهل والجبل والغور والجامع والكنيسة والثائر والفلاح، مرّ منها السيد المسيح في طريقه إلى الناصرة، عالج المرضى وأقام الصلاة ونجا من المطاردة.

مدينة جنين تواجه الكون، لها أسبابُها لكتابة تاريخ من الدم خارج سياق الطبيعة ومعادلات الصراع النمطية، ولا يمكن أن تفهم جنين دون أن تقيم هناك وتقرأ التاريخ في حجارتها وصخورها القديمة، أن تكون حيا أو شهيدا، أو تكون في الذروة أو في الهاوية.

اذهب إلى جنين اليوم أو غدا، لا تنس أن تدخل المخيم، وعندما ترى صور الشهداء تتصدر كل الجدران وتشم رائحة الدم والبارود والرصاص، وتصغي إلى النساء وحكاية الغيوم التي تبسط يديها في وجه الشمس، ستدرك حينها أن هناك تحوُّلا في الزمن الفلسطيني، لأن جنين ذاكرة مليئة بالأمكنة والمقدسات، حيث تمتزج الذكريات بالفاجعة، وبآفاق جديدة من الرؤية الأخرى والمعرفة.

لكي تعرف جنين اصغِ إلى حديث في المقبرة، قف على رأس مثلث الشهداء لتجد ذاتك المسلوبة بين الأنقاض تحت حجارة البيوت المدمرة، هناك غضبٌ وفقر ونيران وجثث، هناك كلام لم يقرأه الكثيرون، أحلام نهبها الموت وجنازير السلام المخادع والمواد المتفجرة.

لكي تعرف جنين سِر في شوارعها وخريطة جسدها حفرة حفرة، خندقا خندقا، أطفال ينامون في أحضان الغبار، يبدو أن الموت اختار جنين هذه السنة، بكاء الحجر وشهيق الجدران، صمت الهواء وصراخ الشجر، هياكل بشرية ممزقة، أشلاء مبعثرة، أجساد محترقةـ، حينها ستعرف كل الدروب التي تقودك إلى الحرية، هذه الحرية التي تقول لك: ربما مت لكنك في جنين لازلت حيا.

اذهب إلى جنين، اتدرك كم العالم ضيق، وأنك الهامشي المنذور للذبح على يد جيش لا يتقن سوى الذبح، محاصَر في اللغة، محاصَر في كل شيء حتى في السجن أو في الموت وكمية الهواء، في البصر والبصيرة، أين الوطن؟ يسأل الشهيد ذلك السياسي وهو يحفر قبر شهيد آخر، عندما يسقط غصن الزيتون الأخضر من يدك اليمنى وقد أسقطوه، ماذا تفعل يدك اليسرى التي تحمل البندقية؟

اقرأوا يوما واحدا من أيام جنين الدامية، يوم 28/9/2022، أكثر من أربع ساعات من القتل، استشهاد 4 مواطنين والعشرات من الجرحى النازفين، جرافات عسكرية، سلاح الهندسة، طائرات الأباتشي، فِرق الاغتيال، طائرات مسيَّرة، كل شيء تجمَّد في جنين، المواعيد والأعراس والمواليد، الدخول والخروج، النوم واليقظة، دماء في الشوارع وعلى عتبات البيوت، أجسام ممزقة، صراخ في البيوت والمستشفيات وغرف الموتى وكتب المدرسة، وحوش الاحتلال جميعها تحتشد على بوابات جنين، تنتظر خائفة أن تختفي جنين وتحدث معجزة.

جنين تخترق الحدود المكانية والسياسية وتقلب اللغة السائدة، حكم ذاتي إسرائيلي أملى علينا ثقافة وفكرا لا يتخطى السياج والمسامير التي دقت في هياكلنا وعقولنا، سقف حديدي فوقنا وحولنا، لا بحر ولا شاطئ للدولة الفلسطينية القادمة، لا بساتين ولا تنمية ولا يقين ولا سيادة، لا قصائد تذكِّرنا بحيفا والناصرة، تحويل البشر إلى مجرد أشكال متحركة، يلطمها هذا الحاجز أو تبتلعها تلك المستوطنة.

جنين، والسماء والطارق، عمِّموا جنين على القلب والمشاعر والعقل والساعدين حتى تصير أغنية، عمِّموا جنين على الأفق السياسي المغلق حتى يستيقظ الغافلون على صوت دبابة وجنود وكلاب تقتحم أحلاما مخدرة ونائمة.

جنين، والسماء والطارق، والذي خلق البرق والرعد والزلازل، والذي أعطانا هذه الأرض مباركة كلها منذ أول الخليقة: الحجارة والزراعة والصناعة والعبادات والشرائع والجمال والحب والأنبياء والنساء والمقاومة، شرعية التاريخ والوجود والحرية والكرامة، الحضور العالي لا يعرف التنازل أو المساومة.

 

 

 

 

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!