الرأي

جيل الاستباق والفعل

محمد سليم قلالة
  • 2922
  • 4

من خلال هذا الفضاء الذي اقترحته عليّ هيئة تحرير الشروق سأحاول تقديم العناصر الأساسية لأجل بلورة رؤية مستقبلية لجزائر الغد، في انتظار أن يصلني المدد الفكري من العمق الشعبي بمختلف مستوياته باعتباره هو العمق الاستراتيجي لأية رؤية والمنطلق الأول لأية أفكار..

  لكي تصبح الرؤية استشرافية ينبغي أن تُصحِّح الخلل الأول في المسار السائد حاليا والقائم على ردة الفعل بدل الاستباق والاستحداث. وهذا يستلزم فهم لماذا يسود منطق رد الفعل في مجتمع مثل المجتمع الجزائري. سواء أكان ذلك في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة وبناء المجتمع.

يحضرني في هذا المجال الحدث المتكرر في بلادنا منذ نحو عقد من الزمن والمتمثل في قيام مجموعة من المواطنين بحرق إطارات مطاطية وقطع الطريق مطالبين بتنفيذ وعد من الوعود أو بحل مشكلة من المشكلات. هذا الحدث هو المثال الحي على سياسة رد الفعل المعتمد من قبل المسؤولين التنفيذيين، والدليل القاطع على أن هؤلاء لا يملكون رؤية إن على المستوى المحلي أو المركزي، إذ تجدهم يغُطّون في نوم عميق ولا ينتبهون لحقائق الوضع القائم حتى ينفجر، وعندما ينفجر تجدهم يسارعون إلى حل المشكلة تحت ضغط الفعل الخارجي القائم، أحيانا يُفلحون في ذلك وفي غالب الأحيان يؤجلون حلها فقط بوعود كاذبة، ذلك أن انعدام الرؤية متطابق تماما مع عبارة الدبلوماسي الفرنسي التقليدي “تاليران” عندما كان يقول دائما: عندما يكون الأمر مستعجلا فقد فات الأوان. أي لن تبقى للسياسي أية خيارات وهو في حالة الاستعجال، وهو يحاول الاستجابة لأفعال الآخرين.

ولعل هذه هي الوضعية التي يتحرك ضمنها مسؤولونا المحليون والمركزيون، حتى أنك تجدهم لا يعالجون سوى المشكلات المستعجلة، وإذا لم تكن المشكلة مستعجلة فإنها بالنسبة لهم ليست مشكلة. وهو ما أدركه المواطن من خلال ما اختبره من سلوك المسؤول حيث أصبح يعرف بأنه لا يستجيب إلا تحت الضغط، والضغط الأكثر فعالية هو قطع الطرقات.

هذا الحدث، وكيفية التعامل معه إنما يكشف لنا مسألتين:

ـ الأولى عندما يستطيع المسؤول حل المشكلة، والتي تعني أن لديه إمكانيات لحلها دون أن يكون مدركا إياها بسبب انعدام الرؤية.

ـ والثانية عندما لا يستطيع حل المشكلة ويلجأ إلى تقديم عناصر رؤية ارتجالية للمستقبل تتحول بسرعة إلى مجرد وعود كاذبة لأنها غير مؤسسة على علم سابق قائم على استباق الأحداث.

أما المسألة الأولى فيعيدنا حلها، إذا أردنا ذلك طبعا، إلى إعادة النظر في مسألة علاقة الإرادة بالإمكانات. هل ننتظر توفر الإمكانيات لكي نتحرك وفقها، أم علينا أن نمتلك العزيمة أولا ثم نصوغ الهدف ونقتنع به ثم نبحث عن الإمكانات اللازمة لتحقيقه؟

وفي هذا المجال يبدو أن السلوك الجزائري قد تم تغييره عبر العقود الخمسة الماضية وخاصة في العقدين الأخيرين من ذلك الشخص الذي يملك العزيمة والإرادة ويبتكر الإمكانات لتحقيق أهدافه، إلى ذلك الذي يتعذر في كل مرة عن تحقيق أهدافه بقلة الإمكانيات وضعف الموارد.

ودون الرجوع إلى الحقبة السابقة لثورة التحرير الكبرى ـ بما في ذلك حقبة الحركة الوطنية ـ حيث كان هناك صنف من الرجال والنساء يتحركون لتحقيق أهدافهم من العدم تقريبا، فإن حقبة ما بعد الاستقلال ـ العشرية الأولى ـ استمرت في الحركة وفق هذا النهج. حيث لم تكن هناك صعوبة في طرح طموحات وأفكار وأهداف كانت أكبر من الإمكانات المتاحة بكل تأكيد سواء تعلق الأمر بقطاع التعليم أو البناء أو الصناعة أو حتى الرياضة. فمن اللاشيء كان مسؤولو جيش التحرير والمناضلون الذين تولوا المسؤوليات ينجزون الكثير، والقصص في ذلك لا تعد.

وبالتدريج بدا هذا الزخم في الاعتماد على العزيمة أولا يتراجع، إلى أن وصلنا في العقدين الأخيرين إلى صنف من المسؤولين يتحركون دون مستوى الإمكانات التي يملكون، ثم، وهي الكارثة الأكببر إلى صنف من المسؤولين يهدرون الإمكانات ويحطمون القدرات من غير أي تأنيب ضمير بل ولديهم الشجاعة للقول أن ذلك تم وفقا للقانون.

ولعل هذا التحول الكبير هو أول مشكلة ينبغي أن تحل لنبدأ في إعادة عقارب الساعة إلى وضعها لطبيعي ولتعود حركتنا إلى منطلق الفعل القائم على الإرادة والعزيمة والرؤية أساس أي تقدم.

يمكن ان نصوغ حلها من خلال صياغة المبدأ الأول التالي:

ـ الإرادة والعزيمة أساس صياغة الرؤية قبل الإمكانيات والوسائل، ورجال ونساء  الإرادة والعزيمة قبل رجال الأظرفة المالية والحلول المستوردة، وجيل الفعل والاستباق قبل جيل ردة الفعل.

 أما إذا عدنا إلى الى المسألة الثانية فإننا سنكتشف أمرا جللا آخر، ذلك الصنف من المسؤولين الذي يضع نفسه باستمرار ضمن موقع رجل الإطفاء، بل يعتبر أن دوره كرجل إطفاء هو وحده الذي يمكنه من الاستمرار ضمن الذين يرفضون أن تسير البلاد وفق رؤية واضحة ويفضلون  الغموض الذي يبقى السياسة مفتوحة على كل الاحتمالات. ولعل هذا ما أصبح الكثير من المسؤولين ينفذونه بالحرف، فهم قُعود يَحرصون مناصبهم إلى حين تبدأ النار في الاشتعال، فيُسخّرون كل الإمكانات لإطفائها ويحسبون ذلك ضمن رصيدهم الإيجابي الذي يؤهلهم إلى مراتب عليا في المسؤوليات. في حين أن الأمر ينبغي أن يأخذ منحى آخر وأن يكونوا محل سؤال: ما هي قدرتكم على الاستباق؟ لماذا لم تتوقعوا حدوث مثل هذه المشكلات؟ أين هي قدرتكم على قراءة الواقع والتنبؤ بمصيره المستقبلي؟

ولعل الجميع يعرف أننا نادرا ما نجد مسؤولا لديه مثل هذه المؤهلات، أو لديه القدرة على صياغة ولو مشروع مستقبلي لمحيطه المباشر، وحتى العائلي أحيانا، بل أصبحت الغالبية تشترك  في سياسة  واحدة تبرر فشلها بقاعدة حفظها الكثير من المسؤولين: أنا انتظر التعليمات. وإذا لم تأت هذه التعليمات فأنا في أحسن حال..

هذا الواقع هو الذي ينبغي لنا علاجه عند بداية صياغة أية الرؤية كمبدأ ثان: أن يتم استبدال الرجال والنساء غير المحفزين وغير القادرين على تقديم حلول مبتكرة لمحيطهم المباشر بآخرين يمتلكون هذه المؤهلات. أي استبدال جيل ردة الفعل بجيل الفعل والاستباق في هذا المستوى أيضا.

ومنه تتجلى لنا الخلاصة الأولى التي ينبغي أن نخرج بها:

أن الرؤية لا يمكن أن تُصاغ من أعلى وتنفذ على أرض الواقع إلا إذا كان العنصر البشري في جميع مستويات هذا الواقع من الصنف المؤهل للتفاعل معها وتطويرها باعتبارها ليست مسألة ستاتيكية ثابتة إنما هي ديناميكية متحركة باستمرار تستلزم الإدراك والتبني. أي أن يكون العنصر البشري القائم عليها مدركا لطبيعتها، ومقتنعا بها، ولديه المؤهلات ليمتلك هذا الإدراك وهذه القناعة.

وعليه فإن المطلوب بداية لكي نهيئ الأرضية  لبلادنا لكي تستمر في القرن الحادي والعشرين، أن نبدأ في المقام الأول باستبدال العنصر البشري المشَكَّل بصيغة رد الفعل بالعنصر البشري المُشَكَّل بصيغة الاستباق والاستحداث، والقادر على القيام بالعمليتين معا أي القادر على الاستشراف والتفاعل مع الرؤية الاستشرافية، كما سنرى في الأسبوع القادم بإذن الله.

مقالات ذات صلة