-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

…حتى تنفقوا ممّا تحبّون

سلطان بركاني
  • 608
  • 0
…حتى تنفقوا ممّا تحبّون

هناك حقيقةٌ نقرّ بها جميعا، لكنّنا كثيرا ما ننساها ونذهل عنها؛ حقيقة أنّ هذه الدنيا التي نعيش أعوامها وشهورها وأيامها، فانية، وكلّنا عمّا قريب راحلون عنها.. كم دفنّا من أحباب لنا في سنّ الشّيخوخة، وفي سنّ الكهولة، وفي سنّ الشّباب؟ رحلوا عن هذه الدنيا ورأينا كيف لُفّت أجسادهم في أكفان بيضاء لا تحمل جيوبا، وكيف أُودعوا حفرا في الأرض لا أنيس لهم فيها غير أعمالهم الصّالحة؛ ليس لهم فيها بعد رحمة الله غير أعمالهم التي قدّموها يوم كانوا معنا وبيننا.. ولعلّ كثيرا منهم الآن ينعّمون في قبورهم بالنّور والحبور، بفضل الله أولا، ثمّ بفضل تلك الصّلوات التي أقاموها لله، وتلك الآيات التي تلوها يرجون الثواب من الله، وتلك الأموال التي بذلوها لوجه الله…
ربّما يغرّر بنا الشّيطان، وتخدعنا أنفسنا الأمّارة بالسّوء وتصوّر لنا أنّ السّعادة كلّ السعادة في جمع الأموال وإنفاقها على المآكل والمشارب والملابس وعلى الذهب والفضة والسيارات والكماليات، فنطيعها وننسى الموت وما بعده، حتى إذا مرض الواحد منّا فجأة ولزم الفراش وبدأت دقّات ساعة الرّحيل تتوالى.. هناك يدرك أنّ نفسه قد غرّرت به، ويندم أشدّ النّدم، ويتمنّى لو تعود إليه عافيته لينفق ويتصدّق، لكن هيهات هيهات، يقول بلسان حاله ((يا ليتني قدّمت لحياتي))، وربّما يقول بعد أن يفتح عينيه على قبر موحش مظلم لا أنيس فيه إلا العمل الصّالح: ((ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت)).
إنّنا مدعوون لنقرع أنفسنا من حين إلى آخر بهذه الحقيقة، خاصّة ونحن نستعدّ لاستقبال رمضان، لتتحرّك قلوبنا وجوارحنا بأعمال صالحة تنوّر قبورنا وتؤنسنا في وحشتها، ما دمنا نمتّع بالصحّة والعافية، وما دام بين أيدينا من متاع الدّنيا ما تعتق به رقابنا وننال به الأجر العميم والدّرجات العالية عند الله، يقول نبيّ الهدى صلّى الله عليه وسلّم: “بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا: هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا، أَوْ غِنًى مُطْغِيًا، أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا، أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا، أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا، أَوْ الدَّجَّالَ؛ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَر، أَوْ السَّاعَةَ؛ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ؟”.. ولنا أن نلحظ كيف أنّ الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- وهو يرغّب في اغتنام الصحّة والغنى في الأعمال الصّالحة، ألمح ابتداءً إلى الصّدقة، لأنّها من أفضل الأعمال التي يتعدّى نفعها إلى الغير.
كلّنا نملك أهلا وأبناءَ ننفق عليهم، وربّما تنقصنا بعض ضروريات العيش، لكن لا ينبغي أبدا أن ننسى قول الله جلّ وعلا: ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون))، أي لن تنالوا الخير حتى تنفقوا من أموالكم التي تعزّ عليكم وتحبّونها وتحدّثكم أنفسكم بالحاجة إليها.. يُروى أنّ صحابيّ رسول الله -عليه الصّلاة والسّلام- أبا طلحة الأنصاريّ -رضي الله عنه- كان من أكثر الأنصار بالمدينة مالاً، وكان أحبّ أمواله إليه بَيْرُحاء وكانت بستانا قبالة المسجد النبويّ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدخُلها ويشرب من ماءٍ طيِّب فيها، فلمَّا نزلت ( لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون))، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنَّ الله يقول ((لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون))، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحاء، وإنها صدقةٌ لله -تعالى- أرجو برَّها وذخرها عند الله، فضَعْها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “بخٍ، ذاك مالٌ رابح، ذاك مالٌ رابح”.
إنّ أربح تجارة ليست في بضاعة غالية الثّمن يكثر الإقبال عليها، وتدرّ على صاحبها أرباحا وفيرة، لكنّ أربح تجارة هي التي تكون مع الله.. يقول الله تعالى: ((مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)).. فيا الله! أيّ تجارة في هذه الدنيا تعود على صاحبها بربح ربّما يتجاوز 700 ضعف من رأس المال؟
من واجبك –أخي المؤمن- أن تسعى لتوفير ضروريات العيش وبعض كمالياته المباحة لأسرتك، ما جانبت الإسراف والمخيلة، ومن واجبك أن تسعى لكفاية نفسك وأهلك الحاجة إلى النّاس، ومن حقّك أن تهتمّ بترك أبنائك أغنياء من بعدك، لكن لا ينبغي أبدا أن تنسى أنّ أنفع أموالك هي التي تدّخرها ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.. فأنفق أيها اللّبيب في سبيل الله؛ أنفق في بناء بيوت الله وفي سدّ حاجات الأسر الفقيرة، وأخلص في نفقتك، ترَ من ربّك الحنّان المنّان ما يدهشك في الدّنيا والآخرة؛ يباركْ لكم في مالك ورزقك، ويحفظك في نفسك وأهلك، ويرزقك الخشوع في قلبك، ويدّخر لك صدقاتك ليوم تعزّ فيه الصّدقات، ويدفع عنك من البلايا ما تراه وما لا تراه.. يقول أحد الآباء الموسرين: “ابتليتْ ابنة لي صغيرة بمرض في حلقها، فذهبتُ بها إلى المستشفيات وعرضتها على كثير من الأطبّاء، ولكن من دون فائدة؛ فمَرَضها أصبح مستعصياً، وأصبحتُ أنا المريض بسبب مرضها الذي أرَّق كلّ العائلة، وأصبحنا نعطيها حقنا للتخفيف من آلامها، حتى يئسنا من كلّ شيء إلا من رحمة الله.. إلى أن جاء الأمل وفُتح باب الفرج، فقد اتصل بي أحد الصّالحين من معارفي –أحسبه كذلك- وذكر لي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “داووا مرضاكم بالصّدقة”، فقلت له: قد تصدّقت كثيراًُ. فقال: تصدق هذه المرة بنية شفاء ابنتك، وفِعلاً تصدقت بصدقة متواضعة لأحد الفقراء، لكن لم يتغير شيء، فأخبرته، فقال: أنت ممّن حباهم الله نعمة ومالا كثيرا، فلتكنْ صدقتك بحجم مالك، فذهبت للمرة الثانية وملأت سيارتي من الأرز والدجاج والخيرات بمبلغ كبير ووزعتها على كثير من المحتاجين، ففرحوا بصدقتي ودعوا لي، ووالله لم أكن أتوقع أبداً أنّ آخر حقنة أخذتْها ابنتي هي التي كانت قبل صدقتي.. لقد شُفِيت تماماً بحمد الله، فأيقنت بأنّ الصدقة من أكبر أسباب الشّفاء، والآن ابنتي بفضل الله ليس بها أيّ مرض على الإطلاق، ومن تلك اللحظة أصبحت أُكثر من الصدقة خصوصاً على الأوقاف الخيرية، وأنا كلّ يوم أشعر بالنّعمة والبركة والعافية في مالي وعائلتي، وأنصح كلّ مريض بأن يتصدّق من أعزّ ما يملك، ويكرّر ذلك، فسيشفيه الله تعالى، وأدين لله بصحّة ما ذكرت، والله لا يضيع أجر المحسنين”.
من وسّع الله له في رزقه فليتصدّق وليكثر، ومن لم يكن صاحب مال كثير، فليُقدّم ولو القليل، ورُبّ قليل يكون عند الله بالمنزلة العالية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!