الرأي

حتى لا نغرق في الدَّوامة السياسية

محمد سليم قلالة
  • 541
  • 3
ح.م

المُشكلة التي نعيشها اليوم هي أن مشروع البناء الوطني في حاجة إلى بلورة أكثر وإلى توضيح، وإلى أن يَخرُجَ في أقرب الأوقات من المرحلة الرَّمادية التي هو فيها. لقد تم وضع بعض اللَّبِنات في المجال السياسي، ويبدو أن خارطة الطريق في هذا المجال تكاد تكون واضحة، اتفقنا أو اختلفنا معها. إلا أنّ الضبابية في الجانبين الاقتصادي والاجتماعي مازالت هي سيدة الموقف.

بكل تأكيد، الظرف الذي يمرّ به العالم وتَمُرّ به البلاد لا يسهِّل الشروع في طرح وتنفيذ مشروع اقتصادي واجتماعي خوفا من عدم القدرة على الالتزام، إلا أن هذا لا يمنع من خلق ديناميكية نقاش حوله بدل ديناميكية النقاش السياسي التي استنفدت جدواها، ويبدو أنها لم تعد تستطيع الإسهام في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء.

لقد أصبح من الضروري اليوم، الانتقال إلى مستوى آخر من التفكير. إنه مستوى المشروع الاقتصادي والاجتماعي. ويُمكن لهذا المستوى أن يستقطب الكفاءات الوطنية ويَفتح باب الأمل للكثير من الفئات، كما يُمكِنه أن يوضِّح الخيارات الاقتصادية للبلاد في المستقبل المباشر، ويوضح تحالفاتها المستقبلية على هذ الصعيد، بل سيكون له تأثيرٌ واضح على الجانب السياسي.

إن مثل هذا المنحى سيُخرجنا تدريجيا من حالة التشبُّع في مجال النقاش السياسي، إذ انكفأ كلٌّ على نفسه وأَصَرَّ على موقفه إصرارا، وبدا وكأنه غير قابل للاتفاق مع الآخر، بل إن مثل هذا التوجُّه سيؤدي إلى تغيير الرهانات بدل الغرق في متاهة التحدِّيات السياسية وانغلاق كل طرف على نفسه وضمن أفكاره، متحدِّيا وأحيانا مُصارعا الآخر بلا جدوى.

 لقد أثبتت تجارب دول عدة، على خلاف الشائع، أن التوافقات في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية مُمكِنة حتى وإن كانت هناك اختلافاتٌ في الطروحات السياسية، بل إن مثل هذه التوافقات قادرة على امتصاص وتجميد الخلافات السياسية ما دام الأمر يتعلَّق بحل مسألتين أساسيتين: العوز الاقتصادي والأمن الأمني اللذين يعودان بالفائدة والخير على للجميع، خاصة في مجالي إعادة توزيع الثروة بعدالة وتحصين الأمن الوطني. تماما مثلما يقع للأمّ والشعوب في حالات الأزمة الاقتصادية الحادة أو حالة الحرب؛ إذ يسارع المتخاصمون في الداخل إلى تجميد خلافاتهم للتصدِّي إلى ما هو أخطر: الجوع والخوف.

ولعلَّنا اليوم نعيش هذه الوضعية.

إنَّه من باب الوطنية أن نُفكِّر في كيفية تعزيز أمننا الاقتصادي وأمننا الأمني قبل أن نفتح النقاش حول ما نختلف فيه بشأن الأجندة السياسية. ذلك أن هناك الكثير من الفئات الشعبية اليومية هي على حافة الانهيار، كما أن التهديدات الخارجية ما فتئت تزداد.. بل إنه بالإمكان الإبقاء على الأجندة السياسية كما هي مطروحة الآن وتجميد النقاش بشأنها، شريطة الانطلاق في بناء توافقات اقتصادية واجتماعية لإخراج البلاد من عنق الزجاجة وتمكين الناس من العيش الكريم عبر حلِّ الكثير من الإشكالات العالقة في مجالات حيوية، كالشغل والغذاء والسكن والصحة والتعليم…

أقول هذا لأني أتصوَّر أن الغرق في الدوامة السياسية وفي محاولة ليِّ ذراع هذا الطرف لذاك، من شأنه أن يزيد الأوضاع الهشة سوءاً، مما سيُفاقم من حدة الصراع ويُغذّي عدم الاتفاق أكثر، في حين أن الإسراع ببلورة وتنفيذ المشروع الاقتصادي والاجتماعي والتركيز عليه، من شأنه أن يَحُلَّ عدة إشكالات لها علاقة بالعدالة الاجتماعية والشعور بالظلم واللاّمساواة، ويمنع الانتقال إلى درجات أعلى من القنوط واليأس، عادة ما تُغذِّي الحالة الانفجارية للوضع السياسي.

لِنسارع إذن إلى نَقْلِ النقاش من الحلبة السياسية إلى الحلبة الاقتصادية الاجتماعية، وبلا شك سيجد الجميع مُتَنفَّسا، وتبدأ حالة الاحتقان في الزوال مع كل خطوة نتقدم فيها في هذا المجال، إلى أن تَطمئن الأنفس على أمنها الاقتصادي والاجتماعي والأمني وتستعيد اطمئناناها النفسي، وبعدها من السهل العودة إلى ورشة الإصلاح السياسي والإصلاح العميق.

مقالات ذات صلة