حديث عن استقالة البابا
أثار قرار البابا بنيدكت السادس عشر بالاستقالة من مسئولية البابوية الكاثوليكية موجة كبيرة من التعاليق المختلفة، خاصة في الأوساط الكاثوليكية المعنية بالدرجة الأولى بهذا القرار، لأنه – كما قيل – لم يسبق إليه سابق، وقد لا يلحق فيه لاحق، فالتقليد البابوي في هذا الشأن هو أن يظل البابا في منصبه، ولو صار يمشي مكبّا على وجهه، إلى أن يحين حينه، ويأتيه ملك الموت الذي وُكّل به..
لم أهتم بقرار البابا بالاستقالة من منصب البابوية لا من جانبه الديني الكاثوليكي، ولا من ناحيته السياسية؛ ولكن الأمر الذي أهمني ودفعني إلى كتابة هذه الكلمة هو الجانب النفسي/ الاجتماعي للبابا..
لقد شاءت إرادة الله – عز وجل – الغلاّبة وحكمته البالغة أن يركّب هذا الإنسان من عنصرين مادي ونفسي ولا غناء لإحدهما عن الآخر، وكيلا العنصرين له حاجاته المادية والنفسية التي يجب إشباعها حتى يكون هذا الإنسان كائنا سويا، ولذلك خلق له الله – عز وجل – ما يمكّنه من تلبية هذه الحاجات المادية والنفسية وإشباعها.. فما أعظم قدرة الله، عزوجل، وما أبلغ حكمته.
لا ريب في أن البابا المستقيل لن ينقصه شيء من الأمور المادية؛ فسيخصّص له طبّاخون مهرة لكي يعدّوا له أشهى المأكولات، وعاصرون لكي يعصروا له ألذّ المشروبات، وخياطون لكي يفصلوا ويخيطوا له أجمل الملبوسات، وإذا مرض فسيؤتى له بأمهر الأطباء والطبيبات، وستسهر على تطبيبه أجمل الممرضات.. ولكن الأمر الذي لا مرية في أن البابا سيعاني منه معاناة شديدة هو الجانب النفسي، حيث لن يجد إذا آوى إلى مخدعه صاحبة تداعبه في الحلال وتؤنس وحدته، ولن يجد إذا استيقظ من نومه ولدا يناغيه.. وما أجمل وألذ نعمة الزوجة والولد..
إن الله – عز وجل – خلق من كل شيء زوجين ذكرا وأنثى، وخلق الرجل والمرأة ليكمل كلّ منهما الآخر، ويؤنسه، ويعاونه على قطع رحلة الحياة الدنيا الشاقة، بل إن الله – الحكيم الخبير – خلق لآدم وهو في الجنة، حيث لا يجوع ولا يضحى، ولا يمرض ولا يعرى؛ خلق له أنيسا منه، وما كان الله – عزوجل- في ذلك عابثا، سبحانه. وكان ذلك الأنيس هو حواء أمّ بنيدكت السادس عشر، وأم البشر كلهم أجمعين.. وقد جاء فيما يسمى “التوراة”(سفر التكوين، إصحاح 2) ما يلي: “وأمّا لنفسه – أي لآدم – فلم يجد مُعينا نظيره، فأوقع الربّ الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما، وبنى الربّ الإله الضلع التي أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي، ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرىء أخذت. لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان جسدا واحدا”.
إن الزواج سنّة إلهية لما فيه من فوائد اجتماعية ونفسية، وجعله الله – عزو وجل – من سنن أنبيائه ورسله – عليهم الصلاة والسلام- إذ جعل لهم – ما عدا عيسى ويحيى- أزواجا وذرية.. حتى يكونوا بشرا أسوياء.. فكيف بعد ذلك يأتي أناس ويعرضون – باسم الدين، أو باسم أي شيءآخر – عما أمر به الله – عز وجل – ورضيه لعباده بمن فيهم أولئك الأصفياء الأطهار، وهم أنبياؤه ورسله؟
هل يعتبر البابوات – بمن فيهم بنيدكت السادس عشر – أنفسهم أطهر من أنبياء الله ورسله – عليهم السلام- الذين كان لأحدهم، وهو سيدنا سليمان عليه السلام “سبع مائة من النساء السيدات وثلاث مائة من السّراري”، كما جاء فيما يسمى “توراة”. (كتاب الملوك الأول. إصحاح 11).
لقد قيل مما قيل إن من أسباب استقالة البابا بنيدكت 16 هو الفضائح الجنسية التي ارتكبت وترتكب في الكنائس والأديرة، وهي فضائح لم ينج منها حتى الأطفال. وكل ذلك بسبب تحريم ما أحلّ الله – عز وجل-.
إن الإسلام – الدين الواقعي – يعتبر الزواج إحصانا من الوقوع في المحذور، ويسمى الرجل المتزوج محصنا (بفتح الصاد) ويسمي المرأة المتزوجة محصنة، ومعنى ذلك أن الرجل غير المتزوج والمرأة غير المتزوجة غير محصنيْن، أي أن قابلية الوقوع في الفسق عندهما أقوى منها عند المحصنين..
وإن الإسلام – الدين الواقعي – يعتبر الزواج سكينة، فقد جاء في كتاب الله الحكيم: “هو الذي خلقكم من نفس واحدة، وجعل منها زوجها ليسكن إليها..” (سورة الأعراف. الآية 182)، وجاء فيه أيضا: “ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها”… (سورة الروم الآية 21).
والسكينة هي “الطمأنينة.. وراحة العقل، وسكون القلب، وهي ناشئة عن الاتصاف بالحكمة والاعتدال، والاتزان، وعن تقدير قيم الأشياء تقديرا صحيحا (1)“، ومعنى ذلك أن غير المتزوج فاقد لكل هذه المعاني، فهو مضطرب النفس، مشوش العقل، متوتر القلب، تنقصه الحكمة، ويفتقد الاعتدال والاتزان، ولا يقدّر الأشياء تقديرا صحيحا.
وإن الإسلام يعتبر الزوجين لباسا لبعضهما، حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: “هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن”.. (البقرة 187)، ومعنى ذلك أن غير المتزوج – من غير عذر- هو كمن يمشي في الناس من غير لباس، ولو ارتدى أغلى الملابس..
وإن الإسلام يعتبر الزواج مسؤولية، حيث صح عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قوله: … “والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها.. (2)“، ومعنى ذلك أن الذي يتهرب من مسئولة تكوين أسرة – خوفا أو استقلالا لشأنها- لايمكنه تحمل مسئولية ملايين البشر..
لقد قرأت في أحد كتب الدكتور محمد عمارة أن للباب بنيدكت 16 كتابا عنوانه “جذور”، وهو عبارة عن حوار أجراه صحفي مع البابا وأحد النواب الإيطاليين، ومما جاء في هذا الكتاب أن البابا يخشى على أوربا في القرن الواحد والعشرين ثلاثة أخطار كبرى هي: النقص الديمغرافي، وهجرة المسلمين إليها، وإسلام كثير من الأوروبيين الأصليين.. ولذلك فإن البابا بنيدكت 16 ممن يجادلون عن الزواج، ويحضون على الإنجاب لمواجهة ما يزعم أنه “الخطر الإسلامي”.. ولكن الأمر العجيب المثير للتساؤل هو أن البابا يأمر بما لا يأتيه هو نفسه .. فإن كان الزواج خيرا – وهو ما يؤمن به كل ذي عقل سليم – فلماذا يحرم البابا نفسه من هذا الخير؟
وإن كان الزواج شرا. وهو ما لا يقول به أسفه السفهاء. فكيف يأمر البابا غيره بالشر؟
إنني أدعو في سجودي إلى البابا بنيدكت 16، والذين يأتون من بعده، وإلى الناس أجمعين أن يشرح الله صدورهم للإسلام، وينوّر قلوبهم بالإيمان، إذ أن الإسهم هو “دين اليقين والتوازن ((3)“، وهو – كما قال الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه: “دين الرجال ((4)“..
.
هوامش:
1) جميل صليبا: المعجم الفلسفي. ج1. ص 662، دار الكتاب اللبناني.. ط 978
2) صحيح البخاري.. كتاب الصلاة. باب الجمعة في القرى والمدن.
3) مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام. ص73
4) مالك ابن نبي: مشكلة الأفكار في العالم الإسلام. دار الفكر. دمشق 1988. ص70.