-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
أسرار من حياة أكبر عالم في تاريخ الجزائر

حقيقة علاقة الشيخ ابن باديس بالمفكر مالك بن نبي

حقيقة علاقة الشيخ ابن باديس بالمفكر مالك بن نبي
أرشيف

ابن باديس، كان ظاهرة علمية، كما قال المرحوم، الشيخ محمد الغزالي، الذي كان يفتخر بكونه عاش في مدينة الشيخ العلامة مدينة قسنطينة، قدم لأمته دستور حياة، فخاض في كل المجالات، فنهل منه رفاقه، ووضعوا لبنة الثورة الفكرية، التي فجّرت الثورة الجزائرية المسلحة. ومع أن الشيخ ابن باديس سبق عصره، فإننا برغم مرور ثلاث وسبعين سنة عن رحيله، لم نلحق بعد بفكره، بدليل تغييب أفكاره في كل برامج الأسرة في الجزائر، وفي الدساتير وفي المقررات الدراسية التي لا تكاد تذكر الشيخ إلا من خلال قصيدة شعب الجزائر مسلم.

هل كانت علاقة ابن باديس مع مالك بن نبي سيئة؟
سألنا الدكتور عمار طالبي، عن مقدمة كتابه الرائع “ابن باديس حياته وآثاره”، إن كان المفكر مالك بن نبي هو من اقترح أن يكتب مقدمة الكتاب، التي جاءت في ست صفحات كاملة في الثامن من أفريل من عام 1966، فقال إنه هو من نقل نسخة من الكتاب إلى بيت مالك بن نبي، واقترح على المفكر الراحل أن يخط المقدمة، وجاءت فعلا مفحمة لكل الذين قالوا إن العظيمين كانا في خطين متوازيين لم يلتقيا أبدا، المفكر بن نبي قال وهو يكتب المقدمة إنه شعر بلذة مزدوجة، ووصف شخصية ابن باديس بالمتنوعة والغنية، وقال بالحرف الواحد إن ابن باديس كان مناظرا مفحما، ومؤمنا متحمسا، وصوفيا والها، ومجتهدا يرجع إلى أصول الإيمان المذهبية، وهو وطني مؤمن تصدّى عام 1936 لزعيم سياسي نشر مقالا عنوانه أنا فرنسا، فردّ عليه ردا حاميا قويا.
ويعترف المفكر بن نبي، بأنه كان يقرأ افتتاحية الشيخ ابن باديس التي كان يكتبها في الشهاب من عام 1929 إلى غاية عام 1939، وختم المفكر بن نبي مقدمة الكتاب بشهادة من النادر أن يقولها مفكر العصر عن شخصية أخرى عندما قال: إنه ناقد اجتماعي وعالم محقق ومصلح وصوفي، وأكمل القول: ولا يفوتني أن أذكر أن غنى هذه الذات ليس محصورا كله في فعل واحد من أفعال هذا الفكر وهذه السيرة، اللذين بعثا الحياة في فترة ما من تاريخنا الوطني، وابن باديس مثقف عاش مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة.
هذه الشهادة من مفكر لم يجامل أحدا في حياته، لم تنسف ما كتبه المفكر مالك بن نبي في مذكرات شاهد على القرن، من لوم للعلامة عندما زاره في مكتبه في قسنطينة في بداية العشرينيات، فقد كان الرجلان يعيشان في مدينة واحدة، وكان ابن باديس يكبر بن نبي عمرا بست عشرة سنة فقط، وفتح ابن باديس مدرسته التعليمية للجميع، فدرس فيها شقيق مالك بن نبي الأكبر محمود، ولكن مالك غاب عنها، وحتى لقاؤهما الأول والوحيد في قسنطينة، كان متوترا كما تحدث عنه مالك بن نبي، الذي كان ثائرا لا يريد مهادنة، حيث دخل على الشيخ في مكتبه ووجده منشغلا، لأن مالك كان شابا دون العشرين مرتديا بدلة أنيقة كعادته، والشيخ لم يعره أي اهتمام، فتحدث مالك عما يحدث في المداشر، وطلب بصيغة الأمر تحرّك الشيخ وعدم البقاء في أجواء الدروس والمحاضرات، ثم خرج غاضبا.
ولم يلتق الرجلان بعد ذلك في قسنطينة، خاصة أن مالك بن نبي سافر للدراسة في باريس، وانتقلت عائلته إلى مدينة تبسة، إلى أن توجّه الشيخ ابن باديس إلى باريس، ونزل في الفندق الكبير في منتصف الثلاثينيات، وعندما علم مالك بن نبي بحضوره توجّه غاضبا رافضا نزول رجالات جمعية العلماء في فندق فخم في باريس، كما جاء في مذكرات مالك بن نبي، وطلب منهم العودة، واعترف بأنه اقتحم اجتماعهم في الفندق، ولم يكن لبقا باعترافه، كما اعترف بأن الشيخ لم يرد عليه، ببرودة دم لا يمتلكها سوى المفكرين الكبار، وانقطع حبل اللقاءات نهائيا، والكتاب الذي لم ينشر لمفكر العصر بعنوان عفن في جزئه الثاني، علمنا أن فيه انتقادا من المفكر مالك بن نبي إلى الشيخ عبد الحميد بن باديس، وإلى بقية شيوخ جمعية العلماء المسلمين، ولكنه اختلاف العلماء والمفكرين الذي يمكن أن يكون رحمة، بدليل أن آخر ما كتبه المفكر مالك بن نبي عن الشيخ ابن باديس كان اعترافا صريحا بعظمة العلامة ابن باديس.

أول صحافي جزائري يتعرض لمحاولة اغتيال
قبل أن نعود إلى حادثة محاولة الاغتيال، التي تعرض لها الشيخ عبد الحميد بن باديس في الرابع والعشرين من شهر ديسمبر من عام 1926، التي تحدث عنها بنفسه في صحيفة الشهاب، وخصّها تلميذه الشيخ أحمد حماني بكتاب كامل بعنوان صراع بين السنة والبدعة، وكان المتهم في الجريمة شاب من نواحي مدينة برج بوعريريج، يدعى محمد شريف ميمان، قال لرجال الأمن الفرنسي إنه مبعوث من الزاوية العلوية، التي عاد نشاطها بقوة بدعم من الرئيس السابق، عبد العزيز بوتفليقة.. اتصلنا بالزاوية العلوية، التي مازال مقرها في مستغانم، لنعرف رأيها في هذه الحادثة التي أطفأ فتنتها الشيخ ابن باديس، عندما زار مقر الزاوية عام 1930، والتقى بشيخها أحمد بن عليوة، وتبادلا الحديث، ولكن الناطق الرسمي باسم الزاوية، اعتبر فتح ملف حادثة قارب تاريخها تسعين سنة، غير مجد، وقال إن الوضع في الجزائر يتطلب التقريب وليس التفريق، وهو ما كتبه الشيخ عبد الحميد بن باديس عام 1930 في جريدة الشهاب بعد عودته من عمالة وهران، حيث توقف في الزاوية العلوية، وأشار إلى أن الشيخ أحمد بن عليوة دعاه إلى حفل عشاء كان فيه الحديث فقط عن الأمور التي تجمع ولا تفرق، ومع ذلك، فإن بقية رجالات جمعية العلماء المسلمين بقوا مقاطعين للشيخ أحمد بن عليوة.
أما عن شرارة الحادثة، فتعود إلى بداية العشرينيات، قبل أن يؤسس الشيخ عبد الحميد بن باديس صحيفته الأولى، المنتقد، حيث كتب عام 1922 وكان عمره 33 سنة، أول رسالة مطوّلة إلى علماء تونس ومصر والمغرب، عنونها برسالة جواب عن سوء مقال، تحدث فيها عن الطرقية بطريقة هزّت العالم الإسلامي، وجعلت الشيخ ضمن كبار علماء الأمة، ولم يكن الشيخ عبد الحميد بن باديس عدوا للزوايا ولا للصوفية، ولكنه لم يستحسن أن يختصر الإسلام في الجزائر فيهما، وبمجرد أن أسس الشيخ عبد الحميد بن باديس جريدة المنتقد عام 1925 حتى جعلها بالكامل في بعض أعدادها لمحاربة الطرقية، وبعد سنة من الهجوم الباديسي الكاسح الذي طال كل الطرقيين الذين ذكر أسماءهم، ظهرت أولا صحيفة البلاغ الجزائري التابعة للطرقيين التي صارت تذكر حتى الحياة الخاصة للشيخ، ومنها حادثة إغماء زوجته السيدة يامنة في الشارع، وهي خارجة من الحمام، إلى أن اهتزت قسنطينة على محاولة الاغتيال.
تلك المحاولة تحدث عنها الشيخ أحمد حماني بالتفصيل في كتابه، حيث ذكر أن الشيخ ابن باديس كان عائدا من جامع الأخضر بقسنطينة بعد أن قدم درسا بعد صلاة العشاء، في يوم شتوي بارد مظلم، ليفاجئه شاب قوي البنية بضربة بهراوة على رأسه فسقط الشيخ ابن باديس، أرضا، وتفادى بأعجوبة طعنة في الخصر بموسى بوسعادي، ورغم البنية الضعيفة للشيخ، إلا أنه تمكن من السيطرة على الجاني، وأكثر من ذلك، جرّه إلى نواحي بيته، وهرع أهل الحي وقبضوا على الجاني الذي تم نقله إلى مصالح الأمن، وبدأ التحقيق مع الجاني محمد شريف ميمان، الذي اعترف بأنه خطط للاغتيال منذ سبعة أيام عبر ترصد حركات الشيخ، وكان مبعوثا من الزاوية العلوية بمستغانم. الحادثة بلغ صداها تونس ومصر، وبقيت جريدة الشهاب إلى غاية شهر فيفري عام 1927 تقدم رسائل التضامن التي وصلت الشيخ من الأزهر الشريف، كما كانت تنشر ما كتبته بقية الصحف عن الحادثة، وتم نشر قصائد التضامن من كبار شعراء الجزائر مثل العيد الزاهري ورمضان حمود وخاصة محمد العيد آل خليفة الذي كتب:
حمتك يد المولى وكنت بها أولى
فيا لك من شيخ حمتك يد المولى
وأخطأك الموت الزؤام يقوده
إليك امرؤ أملى له الغيّ ما أملى
عظمة الشيخ ابن باديس تجلت في المحاكمة التي شهدتها قسنطينة في 14 فيفري 1927 عندما حاول التنازل عن القضية، وقال للقاضي إنه صفح عن الجاني، ولكن شقيق الشيخ، ويدعى الزبير بن باديس، وهو مختص في القانون، كلف محاميا أوصل الجاني ليقضي قرابة خمس سنوات في السجن، وخلال هذه الفترة، باشر الشيخ ابن باديس سفرياته التي سماها بالمهام الصحفية الاستطلاعية، وبلغ عمالة وهران. وهناك حدث الصلح التاريخي الذي بصم على روح التسامح التي عُرفت عن الشيخ ابن باديس، الذي التقى بالشيخ أحمد بن عليوة بمقر زاويته في مدينة مستغانم، وكتب عام 1930 في صحيفة الشهاب تقريرا عن اللقاء، جاء فيه بالحرف الواحد ما يلي: “دعانا الشيخ سيدي أحمد بن عليوة إلى العشاء عنده والشيخ الحاج الأعرج بن الأحول شيخ الطريقة القادرية إلى الغذاء، فلبينا دعوتهما شاكرين، وحفلة العشاء عند الشيخ سيدي أحمد بن عليوة حضرها من أعيان البلد ومن تلامذة الشيخ ما يناهز المائة، وبالغ الشيخ في الحفاوة والإكرام، وقام على خدمة ضيوفه بنفسه، فملأ القلوب والعيون وأطلق الألسن بالشكر، وبعد العشاء، قرأ القارئ آيات، ثم أخذ تلامذة الشيخ في إنشاد قصائد من كلام الشيخ ابن الفارض بأصوات حسنة، ترنحت لها الأجساد، ودارت في أثناء ذلك مذاكرات أدبية في معاني بعض الآيات زادت المجلس رونقا.
ومما شاهدته من أدب الشيخ وأعجبت به، أنه لم يتعرض أصلا لمسألة من محل الخلاف يوجب التعرض لها على أن أبدي رأيي وأدافع عنه، فكانت محادثاتنا كلها في الكثير مما هو محل اتفاق دون القليل الذي هو محل خلاف، وحتى يطفئ الشيخ الفتنة نهائيا أنهى تقريره الصحفي الذي نشر في الشهاب عام 1930 بالقول إن أهل مستغانم أهل ذكاء وحسن نية وإقبال على العلم، وللقارئ فسحة قراءة هذه الأحداث كما شاء.

لماذا رفض الزواج بعد تطليقه ابنة عمه؟
من حكمة الله، أن غالبية عظماء الإسلام لا يتركون أبناء، والأكيد أن المفكرين عبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي، هما أعظم ما أنجبت الجزائر في العصر الحديث على الأقل، رحلا دون أن يتركا أولادا من الذكور، الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي قتله الإجهاد فكان شقيقه الأصغر عبد الحق يلحق به إلى الجامع الأخضر لأجل أن يقدم له فطور الصباح، لأنه خرج منذ الفجر للصلاة ولم يعد، يتنقل بالقطار فينسى غذاءه وقد يصوم لعدة أيام، لم يكن مهتما بشأن آخر سوى العلم، وحتى زواجه حدث بطريقة تقليدية، عندما كان ابن باديس في الخامسة عشرة من العمر، فبعد وفاة عمه، ترك لوالده السيد مصطفى ابنتين وشقيقهما أمانة في رقبته، عاشوا في بيت والد العلامة الذي ارتأى تزويج ابنه البكر عبد الحميد وكان دون سن السادسة عشرة من ابنة عمه الكبرى، السيدة يامنة، التي كانت في ربيعها الخامس عشر. تزوج ابن باديس في عز شغفه بالعلم، فكان دائم السفر، وأنجب زواجه ابنا وحيدا سماه إسماعيل عبده، بسبب تأثر ابن باديس بالشيخ محمد عبده الذي زار قسنطينة عام 1902 عندما كان ابن باديس في سن الثالثة عشرة.
“الشروق” لم تعثر على صورة الطفل ولا على أي كلمة قالها الشيخ ابن باديس عن ابنه، سواء في حياته أم عقب حادثة مقتله بمزرعة جده بمنطقة الهرية، على بعد عشرين كيلومترا عن قسنطينة، كل ما تمكنا من معرفته على لسان شقيقه عبد الحق، أن إسماعيل بعد طلاق والديه كان يقضي طفولته في مزرعة جدّه الذي تولى الاهتمام به، حتى بلغ سن السادسة عشرة والنصف عندما كان يلهو ببندقية صيد أحد حراس المزرعة، فانطلقت رصاصة استقرت في رأسه، فمات في عين المكان، حدث هذا في ربيع 1932، كان الشيخ منهمكا في تقديم درس بجامع الأخضر، عندما دخل عليه شقيقة المحمود وأسرّ إليه بالفاجعة في أذنه، فأكمل درسه ثم اختلى معتكفا في بيته يبكي ابنه الوحيد في صمت، لماذا لم يدخل إسماعيل مدرسة أبيه التي كان يحضرها الصغار من كل مناطق الجزائر، وهل كان متعلقا بأمه اليامنة المطلقة؟ أسئلة لم نجد لها إجابة، بينما تقرير الدرك يؤكد أن موت اسماعيل منذ أكثر من ثمانين سنة، جاء من رصاصة في الرأس.
أما عن زواجه الذي لم يعمّر طويلا، ولم نتمكن من معرفة مدّته بالتحديد، خاصة أن الزواج والطلاق كانا بطريقة شرعية، بعيدا عن الوثائق التي يمكن أن تحدده بدقة، فإن شرارته اندلعت عندما أراد ابن باديس أن يعود إلى بيت والده بعد أن عاشا بداية حياته الزوجية في منزل مدرسة التربية والتعليم، وأرادت السيدة يامنة أن تبقى ببيتها الانفرادي، فحدث طلاق عائلي بالتراضي، بدليل أن الشيخ ابن باديس بعد الطلاق ترك البيت العائلي، وبقيت السيدة يامنة تعيش في بيت عمّها والد الشيخ عبد الحميد، رفقة شقيقها وشقيقتها، إلى أن هاجروا عند أخوالهم في تونس. وهناك أعادت السيدة يامنة الزواج، بحسب مصادر، وتذكر جريدة البلاغ الجزائري الطرقية حادثة تبدو من مكائد أهلها على الشيخ ابن باديس، تقول إن أحد تلامذة الشيخ في بداية الثلاثينيات، هرع إلى الشيخ ليحدثه عن سقوط زوجته مغشيا عليها بعد خروجها من حمام شعبي، وقام بعض الرجال بنقلها إلى بيتها، وهو ما أثار الشيخ ورمى الطلاق.
وهي رواية من دون أدنى سند من صحيفة مقرها بعمالة وهران، على بعد ألف كيلومتر عن بيت الشيخ ابن باديس، الذي قرّر ألا يعيد الزواج لعدة أسباب، أولها احتراما لابنة العم يامنة حتى لا تقول إنه رفضها هي، وثانيا لانشغالاته التي جعلته لا يدخل بيته إلا لأجل النوم مدة ساعتين أو ثلاث، وثالثها لتأثره بالمفكر جمال الدين الأفغاني الذي عاش دون أن يلتفت إلى الزواج، ومات في سن التاسعة والخمسين، رغم أن للشيخ عبد الحميد بن باديس ما لا يقل عن عشرين درسا يحث فيها الناس على حسن الاختيار في الزواج، كما أنه حضر أعراس أشقائه، وكان يستجيب لدعوات حفلات الزواج، حتى خارج مدينة قسنطينة، وكان آخر درس في حياته قدمه للفتيات في 12 أفريل 1940.
يتبع

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!