-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حنينٌ وحسرات!

سلطان بركاني
  • 1026
  • 0
حنينٌ وحسرات!

تابعنا ولا نزال نتابع في نشرات الأخبار وعلى مواقع التواصل، تلك المشاهد المؤثّرة التي تنقلها الكاميرات، لآبائنا وأمهاتنا وإخواننا وأخواتنا حجيج بيت الله الحرام، وهم يعدّون العدّة ويحزمون الحقائب ليتجهوا إلى تلك البقاع الطاهرة المباركة..

خفقت قلوبنا ومنّا من دمعت عيناه وهو يقول بلسان روحه: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، ويقول بلسان قلبه:
يحنّ إلى أرض الحجاز فؤادي
ويحدو اشتياقي نحو مكة حــادي
ولــي أمـلٌ مـازال يسمو بهمّتـي
إلـى البلدة الغـراء خـير بـــلاد
بهـا كعبــة الله التـي طـاف حـولـها
عبـادُ الله خيــر عبـــــاد
لأقضــيَ فــرض الله فـي حـج بيتـه
بأصـدق إيمـان وأطــــيب زاد.

حُقّ لقلوبنا أن تحنّ ولأرواحنا أن تشتاق لأن تكون في وفد هو خير وفد وأكرمه على الله، وتخرج في أفضل وأمتع وأنفع رحلة في هذه الدنيا: يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “الغازي في سبيل الله والحاج والمعتمر وفد الله؛ دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم” (رواه ابن ماجه).. يا الله! أيّ شرف أعظم من أن يكون العبد في وفد هو وفد الله جلّ جلاله؟ ويحزم الحقائب لينزل ضيفا على ملك الملوك سبحانه في أحبّ بقاع الأرض إليه تقدّست أسماؤه؟!
وماذا يُتوقّع من أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين أن يفعل بعبادٍ له مؤمنين جاؤوه من كلّ فجاج الأرض وتجشّموا المتاعب وأنفقوا الأموال ليقفوا بين يديه قائلين: “لبّيك اللهمّ لبّيك”؟ تبلغ الحفاوة مداها، وتصل كرامة الحجيج على الله إلى حدّ أن يباهي بهم أهل السّماء وملائكته الكرام فيقول جلّ جلاله: “انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم”.. فيخرج كلّ منهم من ذنوبه كلّها ويعود كيوم ولدته أمّه؛ تغفر له الصغائر والكبائر، وترفع درجته بين أهل الأرض وأهل السّماء.. يقول الحبيب -صلى الله عليه وسلّم-: “مَنْ حجّ فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه”، ويقول: “العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”.. جائزتان يظفر بهما الحاجّ، لا ينالهما غيره: تغفر ذنوبه كلّها إذا لم يرفث ولم يفسق في حجّه، ويكتب اسمه في سجلّ أهل الجنّة إذا كان حجّه مبرورا.
رحلة يطأ فيها المؤمن بقدميه أرضا وطئتها أطهر وأشرف قدمين، قدمي الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله، أرض تحمل بين طياتها أجسادَ رجال سطّروا بدمائهم وأنفسهم وأموالهم أنصع تاريخ لأمّة الإسلام، وتحمل على ظهرها أعظم ذكريات لهذا الدين.. فيا الله؛ هذه مدينته صلى الله عليه وآله وسلّم.. هنا كان يصلّي، وهنا كانت حجرات أزواجه.. هذا قبره، وهنا كان منبره الذي كان يخطب عليه.. لطالما جلس -عليه الصّلاة والسّلام- في هذا المكان وجلس حوله أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، وعبد الرّحمن بن عوف وطلحة والزبير.. هنا كانت غزوة بدر وهنالك كانت غزوة أحد.. هنا شجّ وجه الشّفيع -صلى الله عليه وآله- وكسرت رباعيته وسال دمه الشّريف.. ثمّ يا لله.. هذه مكّة.. هذا بيت الله الحرام الذي بناه خليل الله إبراهيم وطاف حوله النبيّ الخاتم -صلى الله عليه وآله- وصحبُه.. هنا اتّكأ -صلوات ربّي وسلامه عليه- وهنا أوذي.. هذا الصّفا وهذه المروى وذاك ماء زمزمَ الطّاهر.. ذاك غار حراء وذاك جبل عرفات.. مقامات أعظِم بها من مقامات، وذكريات يا لها من ذكريات.
لأجل ذلك الفضل ولأجل هذه المشاعر والذكريات؛ تحترق قلوب الملايين من المسلمين شوقا لتلبية نداء الحجّ: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام)).. مسلمون في شرق الأرض وغربها، في إندونيسيا والهند وباكستان والفلبين وفي كلّ مكان، تخفق قلوبهم وتسيل دموعهم شوقا لرؤية بيت الله العتيق.. ولكَم سمعنا عن إخوان لنا مسلمين في بلاد الأعاجم في شرق الأرض وغربها يذرفون الدّمعات ويرفعون الآهات، شوقا لرؤية بيت الله الحرام.. فماذا عنّا؟ ماذا عن قلوبنا؟ هل تخفق شوقا لحجّ البيت الحرام؟ إنّ من الحرمان ألا يتحرّك قلب العبد المؤمن في مثل هذه الأيام لهفا للحجّ.. كان الصالحون من عباد الله إذا حان وقت الحجّ من كلّ عام يبكون وتسيل دموعهم حزنا ألا يجدوا ما به يحجّون، ومن ذلك ما ذكره ابن رجب في اللّطائف عن أحد الصّالحين المعذورين أنّه رأى الحجيج في وقت خروجهم، فوقف يبكي ويقول: واضعفاه وينشد على أثر ذلك يقول:
قلت دعوني واتّباعي ركابكم * أكن طوع أيديكم كما يفعل العبد
وما بال زعمي لا يهون عليهم * وقد علموا أن ليس لي منهم بدّ.
ثمّ تنفّس وقال: هذه حسرة من انقطع عن الوصول إلى البيت، فكيف تكون حسرة من انقطع عن الوصول إلى ربّ البيت! هكذا كان الصّالحون الذين يتخلّفون عن ركب الحجيج لعذر، فماذا عنّا؟ نحن نتّجه بأجسادنا إلى البيت الحرام 5 مرات كلّ يوم في الصّلاة، لكن ماذا عن قلوبنا؟ حُقّ للمعذور أن يتحسّر ويبكي، كيف بمن ملك المال الذي يبلغه البيت الحرام، لكنّ نفسه أقعدته وأهواءه كبّلته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!