-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حياة جديدة مع بداية عام جديد

سلطان بركاني
  • 5508
  • 13
حياة جديدة مع بداية عام جديد

عام آخر انقضى من عمر أمّة الإسلام، ومن عمر كلّ واحد منّا.. ما منّا من أحد إلا وقد نقص عام من عمره وازداد قربا إلى قبره، ولا ريب في أنّ منّا من ازداد قربا من الله، ومنّا من ازدادا بعدا عن خالقه ومولاه؟.. في كلّ عام نزداد إقبالا على الآخرة وإدبارا عن الدّنيا، لكن لعلّ قليلا منّا يحاسبون أنفسهم وينظرون في حصادهم. لأنّنا –إلا من رحم الله منّا- لا ننظر إلى هذه الحياة الدّنيا بعقولنا وإنّما ننظر إليها بأهواء نفوسنا التي تغترّ بالواقع والحال وتنسى النّهاية والمآل.. لو تأمّلنا حال الدّنيا بعقولنا لأدركنا أنّ الواحد منّا كلّما ازداد عمره سنة في العدِّ، نقصت من عمره سنة في الحقيقة، حتى ينفد العمر ويحين الأجل، ويستقبل حياة أخرى تبدأ بالموت، هي الحياة الحقيقية التي تمتدّ إلى أبد الآبدين.

لقد ألهانا طول الأمل، حتى أصبحنا نسعى سعي من يخلد في هذه الدّار؛ مِن همّ الشّهادة إلى همّ الوظيفة، إلى همّ الزّواج وبناء الأسرة، إلى همّ المصاريف وهمّ ترقيات العمل ومدّخرات الأموال، إلى هموم التّقاعد وتزويج الأبناء والبنات وهموم الأحفاد والحفيدات… وهكذا حتى يحين الأجل على حين غرّة، والواحد منّا لا يزال ينتظر الفرصة المناسبة ليستعدّ للقاء الله، ولكنّ الفرصة ربّما لا تحين حتى يحين الأجل.

ليس حراما أن يعمل المرء لدنياه ويعمل لمستقبله في هذه الحياة، بل إنّ ذلك مطلوب، لكنّ الحرام هو أن يشغله مستقبل الحياة الفانية عن مستقبل الآخرة الباقية.. المستقبل الحقيقيّ للعبد المؤمن يبدأ من لحظة الموت، وهو المستقبل الذي ينبغي أن يفكّر فيه أكثر ويعمل له أكثر.

لقد شبّه الدّاعية والأديب السّوريّ علي الطّنطاوي -رحمه الله- حال كثير من النّاس مع هذه الدّنيا كحال مسافر في طائرة، همُّه أن يجلس في مقعد مريح بجانب النّافذة ليستمتع بالنّظر إلى المشاهد التي تتراءى له، ويأكل من أطيب الأطعمة، ويمضي وقته في مطالعة ما ينسيه طول مدّة الرّحلة، وهو ذاهل غافل عن الوجهة التي هو مسافر إليها وعن المكان الذي سيقيم فيه، هل سيجد فيه ما يريحه ويسعده؟ أنفق ماله كلّه في اختيار الدّرجة الرّفيعة في الطّائرة والمكان الأفضل والطّعام الأشهى ووسائل الرّاحة والتسلية الأمتع، ولم يُبق شيئا من المال للمكان الذي سيقيم فيه بعد وصوله من سفره!.. شغله الطّريق عن الوجهة وشغلته متعة السّفر عن التّفكير في الغاية من السّفر.. لقد كان أنفع له لو تحمّل شيئا من متاعب السّفر والطّريق ووفّر ماله ليشتري به الرّاحة في المكان الذي سيقيم فيه.

رحيل عام ينبغي أن يذكّر كلّ واحد منّا بموعد الرّحيل عن هذه الحياة، وبالاستعداد لهذا الرّحيل بمحاسبة النّفس ومراجعة الحال.. لعلّ الواحد منّا ما يزداد كلّ عام إلا بُعدا عن الله وهو لا يشعر.. لعلّ أحدنا قد باع نفسه وأوبقها وهو لا يشعر.. لعلّ الواحد منّا قد مرضت نفسه ومات قلبه وهو لم ينتبه.. المؤمن الكيّس الفطن يحاسب نفسه كلّ يوم إذا أوى إلى فراشه، لكن على الأقلّ وكأضعف الإيمان ينبغي له أن يحاسب نفسه كلّ عام، إلى أين يسير وإلى أين يتّجه؟.. ما من تاجر إلا وهو يحسب الحسابات مع نهاية كلّ يوم أو مع نهاية كلّ عام إن قصّر، وما من موظّف إلا وهو يحسب الحسابات مع نهاية كلّ شهر لينظر كم أنفق وكم أبقى.. من الضروريّ أن نهتمّ بحسابات الدّنيا، لكن أ ليس من الغبن والغفلة أن نغفل عن حسابات الآخرة، مع أنّ الآخرة خير وأبقى ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))؟.

انقضى عام كامل من أعمارنا، لم نشعر به كيف بدأ ولا كيف انقضى.. لقد تقارب الزّمان؛ فما يكاد الواحد منّا يفتح عينيه مع بداية يوم جديد حتى يجد نفسه في آخر النّهار قد أوى إلى فراشه.. أصبحت الأعوام كالشّهور، والشّهور كالأسابيع، والأسابيع كالأيام.. إنّ مثل هذه الدنيا كمثل رجل نائم، رأى في منامه شيئا يكرهه وشيئا يحبه، فبينما هو كذلك إذ أتاه آت فأيقظه.. الأعوام تتقاصر والأيام تتناقص، ويستمرّ تناقصها حتى يكون اليوم كاحتراق سعفة النّخيل.. الدنيا قد ارتحلت مدبرة والآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكلّ واحدة منهما أهلها، فيا ترى ممّن ستكون أخي المؤمن؟ من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟. تأكّد أخي المؤمن أنّك لن تعيش إلا عمرا واحدا، سينقضي بالموت أو بحلول السّاعة.. عمر واحد وحياة واحدة لا حياة بعدها إلا في جنّة أو في نار.. فلماذا لا ينظّم الواحد منّا حياته؟ لماذا نصرّ على أن نقضي هذا العمر الوحيد والأوّل والأخير في البعد عن الله؟ إلى متى ونحن غافلون عن الموت؟ إلى متى ونحن نلهث خلف هذه الدنيا التي استعدّت للرّحيل؟ إلى متى ونحن نضيّع الصّلوات؟ إلى متى ونحن لا همّ لنا إلا الشّهوات؟ إلى متى ونحن نعصي ربّ الأرض والسّماوات؟ إلى متى ونحن نقترف المحرّمات؟ متى سينظّم كلّ واحد منّا حياته؟ متى سيبدأ الاستعداد للموت والرّحيل؟.

تأمّل أخي المؤمن واسأل نفسك: كم قنطارا من السّميد أكلت حتى الآن؟ 15 قنطارا؟ 20؟ كم لترا من الماء شربت؟ كم خطوة لأجل الدنيا مشيت؟ كم كلمة في مصلحة دنياك تكلّمت؟ ثمّ اسأل نفسك سؤالا واحدا: وماذا قدّمت للآخرة؟ اسأل نفسك أخي المؤمن هذا السّؤال، وانظر في حالك، ثمّ اتّخذ قرارك بأن تبدأ حياة جديدة وأنت تعيش الأيام الأولى لعام جديد.. حياة جديدة، تعمل فيها لدنياك بما يرضي مولاك وعينك على مثواك هناك، تتوب من ذنوبك لتسعد في دارك الباقية، وتصحّح أخطاءك وتنظّم وقتك وتحافظ على واجباتك، وتسأل مولاك أن يعينك على نفسك ويثبّتك ويخرج الدّنيا من قلبك ويجعلها في يدك.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
13
  • بدون اسم

    بقيت 120 يوما (((معظمها))) يستهلك في الطريق دهابا وايابا من والى العمل
    ومابقي من ايام نقضيها في الاكل وشرب القهوة في المقهى.....الخ
    هل فهمت ؟

  • عائشة

    فذكر لان الذكرى تنفع المؤمنين لاالغافلين بارك الله فيكم يا استاذنا

  • معاظ

    الموعظة...

  • بدون اسم

    جزاك الله خير

  • بدون اسم

    120+120+120=360 يوما ، كم بقي من أيام نقضيها في الاكل وشرب القهوة في المقهى؟ اللي يحسب وحده يشيطله...

  • بدون اسم

    التخويف والترهيب يعني الاستسلام
    هل بهكذا افكار نبنبي ونحقق المستقبل للجزائريين
    افكار سلطاني ورفاقه موجها للاقلية العربية لا غير

  • محسن الحجازي

    جزاك الله خير

  • محسن الحجازي

    جزاك الله خير

  • درة الرحمان

    شكرا لك على هذا المقال القيم والتنبيهي واتمنى ان يستفيق كل مسلم اومؤمن من غفلته وسباته ليغير مسار ه الخاطئ الى السبيل القويم

  • عجب

    ادا كان في العام 360 يوما وكنا نعمل8 ساعات في اليوم فيكون مجموع ايام االعمل في كل العام 120 يوما وادا كنا ننام 8 ساعات وهو معدل النوم فنحن قد نمنا في العام الماضي 120 يوما
    فيصبح مجموع ساعات النوم والعمل 240يوما
    بقيت 120 يوما معظمها يستهلك في الطريق دهابا وايابا من والى العمل
    ومابقي من ايام نقضيها في الاكل وشرب القهوة في المقهى ووقت قصير جدا نقضيه في الصلاة واكثر منه نقضيه في القيل والقال وامام التلفزيون والقليل جداااا من يجالس كتابا فهده هي حياتنا باختصار
    انا لله وانا اليه راجعون

  • مولود

    انه اجمل مقال قراته بمناسبة عام جديد

  • Mustapha

    فعلا أخي، بارك الله فيك

  • بوعلام

    بارك الله فيكم يا استاذنا الفاضل على هذه الموعضة