الشروق العربي

..حينما يتلوث المئزر الأزرق بالجهل

الشروق أونلاين
  • 9603
  • 9

ليس هناك ما يبهج قلب مريض وهو يرقد على سرير في مستشفى غير طبيب يتابع حالته وممرضة تبهج وحدته وتسهر على تلقيه العلاج كما يجب، أو تخفف أنينه من ليالي المرض السوداء، الأمر الذي جعل التاريخ يخلدهن بلقب “ملائكة الرحمة”، غير أنه على أيامنا الملائكة صارت شياطين بشرية والرحمة تحولت قسوة وتعذيبا من نوع خاص، الأمر الذي قادنا لإلقاء الضوء عما يحدث خلف الأبواب الموصدة في المستشفيات والعيادات العامة، أين صار بعض المرضى لقمة سائغة في فم ممرضات علاقتهن الوحيدة بالمهنة الشريفة السامية اختزلت في المئزر الأزرق الذي تحول إلى أبيض، لكن ملطخ بالكثير من الشوائب.

رحلتنا جعلتنا ننتقل بين عدد لا بأس به من المستشفيات المترامية هنا وهناك بالعاصمة، ونبحث في ذاكرة بعض المرضى الذين برحوا أسرتهم، لكن لم تبرحهم صور من تفنّن في تعذيبهم، وسلواهم الوحيدة “نوكل ربي”.

البداية كانت من مصلحة للتوليد بالعاصمة قيل حولها وبشأنها الكثير، حتى وصفت بـ”الباتوار”،لم نكن ندرك لماذا هذا الاسم القاسي، فهل يعقل أن تلف الشناعة هذا المكان الجميل الذي تزين بالبياض والذي تبعث منه الحياة؟! وسط هرج ومرج وصراخ تعالى هنا وهناك، ووسط فوضى عارمة، كانت هناك ممرضة تتحدث عبر المحمول ومستمتعة بالمكالمة، غير مبالية بأنين النسوة الموشكات على الوضع ولا بنرفزة أزواجهن ومرافقيهن التي كثيرا ما امتزجت بالصراخ والنفخ والقرع على الأبواب الموصدة، حاولنا التدخل لتلطيف الجو فما كان منها إلا أن نهرتنا قائلة أنها غير معنية وأنها بصدد أخذ استراحة، سبحان الله كيف لملاك رحمة ألاّ يرأف بسيدة تتلوى من شدة الألم، وبطفل على وشك أن يولد إلى الحياة على كرسي حديدي؟؟ حاول مرافق تلك المرأة معها من جديد، لكن من دون جدوى، وحتى مع أخرى، هذه الأخيرة التي لم تتوان عن الصراخ في وجهه قائلة أنها ليست الوحيدة في المستشفى، وأمام صراخه واحتجاجاته حول سوء المعاملة بادرته قائلة: “لديكم البريفي، لماذا تزعجوننا؟ مادمت قصدت بابنا اصمت وانتظر”، ما جعله يهمّ بصفعها وسط فرحة البعض وسخرية البقية ممن علقوا على أنها تستحق ما يحدث لها.

أغلقوا المطبخ فوجدت نفسها ممرضة

تقول “آسيا.خ” تقنية إنعاش، أن المستشفى الذي تعمل فيه بالعاصمة يحوي حالات غريبة، إحداها لممرضة حاليا، كانت تساعد بمطبخ المستشفى، لتجد نفسها ممرضة بفضل الشيتة و”التقزاب”، قبل أن تضيف: “هي لا علاقة لها بالمهنة لا من قريب ولا من بعيد ومطلقا لم تخضع لأي تدريب ومثلها كثيرات ممن يثرن المشاكل مع المرضى هنا، والسبب أنهن دخيلات على أنبل مهنة في التاريخ، تصور ممرضة تقضي طيلة يومها تتحدث عبر الهاتف أو تلوك في أعراض الناس والنميمة، والأدهى من هذا أنهن تخلين عن مآزرهن الزرقاء وبتن يفضلن البيضاء لإعطاء هيبة لأنفسهن، ما جعلني وغيري نعمد للنظارات الطبية وللسماعات لإيجاد وجه تفرقة بيننا”.

صفعتني ليلا حتى أكف عن الأنين

هي شهادة لسيدة بإحدى عيادات التوليد والتي قالت إنها: “في إحدى الليالي التي سبقت وضعي لمولودتي الأولى داهمني الألم، فما كان مني إلا البكاء والأنين، ولأني أجهل موعد ولادتي، استدعيت الممرضة المناوبة في حدود منتصف الليل، نهرتني، وحينما صرخت في وجهها صفعتني بشدة، طالبة مني الكف عن الصراخ وتركها تنام بسلام! كما أن زميلة لها أهانت إحداهن أمامنا كونها تبولت في فراشها من شدة الخوف، واحتجاجاتنا ضدها كانت في خبر كان”.

مهمتها سلبنا أكلنا بحجة أنه غير صحي

تقول السيدة نورة في عقدها السادس أنها عانت الأمرين حينما خضعت لعملية استئصال المرارة مع إحدى الممرضات والتي عوض أن تكون هي الأنيس واليد الحنون كانت تصرخ في وجوه المرضى، تشتمهم وترفض تلبية حاجياتهم، لكن العكس تماما يحدث حينما تكون برفقة الطبيب، أين تستعير صورة الحمل الوديع، مضيفة أنهم لا يرونها إلا ساعة نهاية الزيارات، أين تأتي لتفقد المأكولات التي يحضرها الأهل لتختار أشهاها وتؤممه بحجة أنه غير صحي، بينما في حقيقة الحال هي تترك غير الصحي لتستمتع بوجبات منزلية ساخنة، تاركة المرضى تحت رحمة “السانك سانك” الذي يجهل كيف يحضر ويحسب على أنه غذاء صحي داخل مستشفى.

لم تجد مهنة فدلوها على التمريض بالمعريفة

أخبرتنا زميلة لهذه الممرضة أنها جاءت من العدم، وأنها لا تتقن شيء غير تغيير أفرشة الأسرّة وحراسة أنابيب التنفس الاصطناعي قبل أن تنفد لتستدعي الممرض المشرف أو الطبيب، خاصة أيام المناوبات، موضحة: “هي هنا بفضل المعريفة لا غير، كل ما تتقنه هو النميمة ونقل الأخبار التي تزيدها صعودا في التقييم، الكل هنا يكرهنا، لكن ما باليد من حيلة، معارفها ذوو نفوذ وما علينا إلا تجنبها”.

من عاملة نظافة إلى ممرضة

فعلا شر البلية ما يضحك، فعلى مستوى إحدى الملاحق الصحية بالعاصمة هناك سيدة خمسينية كانت عاملة نظافة، قبل أن تتحول بين ليلة وضحاها لممرضة ذات سلطة وسطوة تجاوزت هيبة أصحاب المئزر الأبيض، فجلوسنا في قاعة الانتظار صدمنا بصورتها، شعر أصفر مصبوغ، بقصة شبه رجالية، أطنان من الماكياج وكأننا عند مدخل قاعة حفلات، حذاء أبيض خالطه بعض الوسخ، وصوت أعلى من أصوات الرجال، كل الممرضات كن يقصدنها بين الفينة والأخرى وهي من كانت تتكفل بتنظيم المرضى، معتمدة سياسة التقديم والتأخير طبعا، ووسط كل هذا تطلق قهقهات طويلة، غير مبالية بآلام المساكين الذين هدّهم المرض وخانتهم جيوبهم للظفر بمكان في عيادة خاصة، وعند سؤالنا حولها أخبرونا أنها قديمة هنا وأن لها معارف قوية بفضل”الشيتة”، لهذا هي ذات سلطة حتى على الأطباء لاسيما المتدربين والمتخرجين حديثا.


وكان رئيس اللجنة الاستشارية فاروق قسنطيني، قد صرح في وقت سابق بأن عملية تحقيق شملت كافة مستشفيات العاصمة بالخصوص، كشفت عن حالات إنسانية كارثية في بعض المستشفيات، تحفّظ عن ذكرها قبل إيداع التقرير لدى رئيس الجمهورية، كما أن التحقيق كشف لامبالاة وتهاونا كبيرا في عدد من المستشفيات التي تنقل إليها المحققون، وباشروا فيها العملية بصفة مباغتة. وأعطى رئيس اللجنة الاستشارية انطباعا بأن الحكومة ومنظمة الصحة العالمية، من خلال التقرير الذي سيرفع إليها، ستطّلع على أمور لا ترقى لتطلعاته وحرصه على أداء محترف للمستشفيات.

يكفينا القول في الأخير أنه ولو أن مثل هذه الشخصيات المستهترة بالمهنة وغير المباليات بصحة المرضى، موجودة بكثرة، إلا أنها تبقى مجرد حالات شاذة، ومع هذا، هناك عدة ممرضات ننحني أمامهن احتراما وتقديرا، كيف لا، وهن في مسيرتهن المهنية المشرّفة أدرى بأحوال المرضى من الطبيب، يقمن بواجباتهن المهنية بمسؤولية وضمير، مطبقات منطق “اليوم لك وغدا عليك”.

مقالات ذات صلة