-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

خاطرة حول جامعة الدول العربية

خاطرة حول جامعة الدول العربية

كُلِّفتُ بالتدريس في الجامعة لمدة خمسة عشر سنة، ومن المقاييس التي تناولتُها بالبحث والتدريس للطلاب هي مقاييس القانون الدولي العامّ لطلبة السنة الثانية والذي كان ينحصر في مصادر وأشخاص القانون الدولي.

ومن أشخاص القانون الدولي كما هو معلوم، الدول والمنظمات الدولية العالمية والإقليمية سواء كانت هذه المنظمات سياسية عامة أو متخصصة.

وقد تبيّن لي بعد معرفة تاريخ نشأة الجامعة العربية ومراجعة ميثاقها ومختلف مراحل عملها، ومقارنتها ببعض المنظمات الدولية الإقليمية، أنّها حبيسة إرادة لا يراد لها أن تكون فاعلة مُؤثّرة ومفيدة. ولمّا شرّفني بلدي بأن أكون سفيرا للجامعة العربية لدى بلجيكا والإتحاد الأوروبي ودوقية لوكسمبورغ، اتّضح لي عمليا أنّ أداء الجامعة أسوء ممّا كنتُ أعتقد.

تلجأ الدول الأعضاء في المنظمات الدولية إلى توظيف خيرة كفاءاتها، كما تعمل المنظمات المعنية على استقطاب الخبرات المتميزة لمساعدتها في أداء مهامها النبيلة في التمكين لأهدافها وخطط عملها.

هذه البديهيّة لا تنطبق تماما على الجامعة العربية التي جعلت العمل فيها مناسبة لتوفير لقمة العيش لبعض مواطني الدول الأعضاء وعلى رأسها دولة المقر. كما أنّ البعض ومع مرور الزمن جعل الجامعة سلة مهملات للإطارات التي يُراد إبعادها بصفة مؤقتة أو دائمة.

وممّا لاحظتُه بعد أن توليتُ تمثيلها وعايشت أداءها، أنّ هذه المنظّمة محكومٌ عليها بأحد خيارين: إمّا أن تتجدد تنظيما ورؤية وتمويلا، أو تتبدد توفيرا للجهد والمال والوقت.

سأترك التعليق على حقيقة سبب نشأتها وتأسيسها وخلفية ذلك. كما سأترك التعليق عمّا صاحبَ هذه النّشأة من خطاب مشحون بالعاطفة وما تلاه من شعارات واعدة، ثم ما لحقها من مواقف مخجلة حتى لا أقول مُذِلّة ومخيّبة للآمال، وأشيرُ فقط إلى بعض الملاحظات ومنها:

أولا: تلجأ الدول الأعضاء في المنظمات الدولية إلى توظيف خيرة كفاءاتها، كما تعمل المنظمات المعنية على استقطاب الخبرات المتميزة لمساعدتها في أداء مهامها النبيلة في التمكين لأهدافها وخطط عملها.

هذه البديهيّة لا تنطبق تماما على الجامعة العربية التي جعلت العمل فيها مناسبة لتوفير لقمة العيش لبعض مواطني الدول الأعضاء وعلى رأسها دولة المقر. كما أنّ البعض ومع مرور الزمن جعل الجامعة سلة مهملات للإطارات التي يُراد إبعادها بصفة مؤقتة أو دائمة.

انعكس هذا النهج على الأداء الوظيفي بكل أبعاده على جديّة القيام بالمَهمّة الموكلة للمنتسبين لها وممثليها، وأصبح المسار الوظيفي مُقدَّمًا  على تحقيق أهداف الجامعة إلى تحقيق مآرب ومصالح الموظَّف في الترقية والاستفادة الشخصية من دون أيِّ اعتبار للكفاءة والجدّية وفتح المجال واسعا للمجاملات والزبونية والتكتلات ثم التنازع وتضارب المصالح.

وأصبحت الفئة الجادّة والكفؤة تتناقص مع الزمن، وانعكس كل ذلك سلبا على الجامعة على المستويين الإقليمي والدولي. ثمّ أصبحت علامة مميّزة بل نموذجا للفشل.

ثانيا: بالرجوع إلى الميثاق التأسيسي للجامعة العربية وتصريحات الأُمناء المتعاقبين على إدارتها -والذين كانوا جميعا من جنسية بلد المقر- نلاحظ أنّ السبب الوجودي للجامعة ومن أهدافها النبيلة تقديم مصلحة الأمة العربية وتحقيق طموحاتها في الحرية والسيّادة والعدالة والتنمية الشاملة المستدامة، بل وتعزيز وحدة مصيرها وكرامة الإنسان العربي، غير أنّ هيكلتها والتناوب على إدارتها وعدم الالتزام بقراراتها وعدم تناسق سياسات الدول الأعضاء وتنوع ولاءاتهم وتضاربها غالبا كانت سببا إضافيا في فشلها.

ولم تبذل الدول الأعضاء طيلة هذه المدة الجهود الكافية لتصحيح آليات عمل الجامعة وتطويرها، وبقيت حبيسة التسويف والمماطلة إلى الحد الذي وصلت فيه الجامعة إلى أن تكون عونا على انتهاك سيادة بعض الدول الأعضاء فيها، وليبيا وسوريا أكبر دليل على ذلك.

بعض الدول الجادّة، والتي بادرت إلى إعادة النظر في هيكلة الجامعة وتجديد كيفية إدارتها وكيفية اتخاذ القرارات فيها واستغلال كل الفرص لِلَمّ الشمل العربي، قوبلت بسيل جارف من الثناء والإشادة لكنها لم تلقَ جدّية في التمكين العملي لهذه المبادرات والتي بقيت حبيسة الوثائق والخطابات من دون أن تر النور على المستوى التطبيقي، الأمر الذي عمَّق شعور اليأس لدى الجادّين من أبناء الأمة حكّاما ومحكومين.

ثالثا: اتخذت الجامعة العربية مواقف تبعث على اليأس، وتُعجِّل بِوأدها. ومن ذلك تلك التي عرَّضت فيها سيادة بعض الدول الأعضاء إلى الانتقاص، ووحدة واستقرار بعض أعضائها بما فيهم المؤسسين إلى الاعتداء، وجعل مصيرها بأيدٍ أجنبية. ماذا يعني تحويل الملف الليبي في بداية العشرية الثانية من القرن الواحد والعشرين على مجلس الأمن تحت البند السابع ليستبيح الأجنبي أرضها بالتدمير والغصب، و شعبها بالقتل والإبادة؟ ليبيا لم تعتدِ على دولة عربية بالسلاح، ولم تنتهك حرمة دولة عضو في الجامعة، ورغم ذلك جُمدت عضويتها بقرار من المندوبين انتهاكا لكل وثائق الجامعة العربية بما فيها ميثاقها.

سوريا جُمدت أيضا عضويتها بسبب أزمة سياسية داخلية وهي دولة مؤسِّسة للجامعة، ثم تُرِكت لمصيرها تنهشها ذئاب الإرهاب وصعاليك مخابرات الدول التي لا تريد خيرا للعرب، وبعد أن استُنزِفت كل مقوماتها ومقدراتها استُرجِع مقعدُها في الجامعة وكأنّ شيئا لم يكن، في الوقت الذي عملت فيه دول عربية أعضاء على تدمير سوريا شعبا ومقدرات.

السودان يُقسَّم تحت أعين الأمّة العربية وجامعتها وبصرهما، وقد تمّ تحذير وإخطار الأمين العام بما يسمى “استفتاء” 2011، قبل سنة من تاريخ إجرائه، وكانت الدول العربية قادرة على تمويل مبادرة تُجنِّب السودان التقسيم ولكنها لم تفعل. ماذا بقي إذن من هدف وحدة الأمّة وسلامة أراضيها؟

لا أريد أن أسترسل في سرد هذه المآسي والخيبات التي تقف شاهدا تاريخيا على عجز هذه الجامعة في التكفل بالأمّة ومصيرها. ولو عبرّت الجامعة عن  عجزها في بيانات تنديد كالمعتاد لكان أشرف لها من أن تصمت مقابل هذه الجرائم صمت المهزوم، حتى لا أقول صمت الشريك.

رابعا: تُروّج خطابات الجامعة بمناسبة وبغير مناسبة مصطلح (العمل العربي المشترك) وهو مصطلح ضبابي لا يتفق العرب على تعريفه وتحديد مفهومه، وهم بذلك يتصنَّعون العمل على التضامن للوصول إلى تحقيق ما لا يتفقون عليه. لقد كانت القضية الفلسطينية الموضوع الذي تطمع الأمّة في أن يجتمع حوله العرب، لكن الواقع اليوم يكذِّب ذلك، فقد اتسعت دائرة التطبيع مع الكيان الغاصب المعتدي، بل أصبحت بعض الدول المطبِّعة خطرا على أمن بعض الدول العربية المجاورة لها وحتى غير المجاورة واستقرارها، وما يحدث اليوم في السودان وفي شمال افريقيا برهان لا يمكن نكرانه.

وحتى لا أُطلق عنان قلمي في الذهاب بعيدا إلى  ترهُّل هذه المنظمة وسلوك بعض أعضائها، أكتفي بالقول إنّ تكتل العرب قضية وجود من عدمه، وإذا ما أراد العرب لأنفسهم عزّة وكرامة فعليهم تسمية الأمور بمسمّياتها وإعادة النظر كلية في أنفسهم وجامعتهم وإلّا ذهب ريحُهم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!