الجزائر
هكذا يُصنع الرؤساء في الجزائر بـ"النيابة" عن الشعب..! / الجزء الثاني

خالد نزار حكم البلاد من نهاية بن جديد إلى بداية بوتفليقة

الشروق أونلاين
  • 33694
  • 84
ح.م
الرئيس الشادلي بن جديد رفقة الجنرال خالد نزار

تسارعت الأحداث منذ إشراقة فجر 1992، واقتنع الجيش بأن الحكم المدني الذي قاده الشاذلي بن جديد، والذي عرف خمس حكومات، تداول على رئاستها أحمد عبد الغاني وعبد الحميد براهيمي وقاصدي مرباح ومولود حمروش وسيد أحمد غزالي، اقتنع بأنه غير قادر على الحكم من دون التدخل المباشر، وليس من خلف الستار الذي سقط في الحادي عشرة من شهر جانفي 1992 عندما أعلن التلفزيون الجزائري استقالة الشاذلي بن جديد، مقرونا بإلغاء الانتخابات التشريعية التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ وإعلان حالة الطوارئ، وظهر في الساحة أولا عبد المالك بن حبيلس ثم المجلس الأعلى للأمن ومن بعده المجلس الأعلى للدولة، الذي أعاد المجاهد محمد بوضياف إلى أرض الوطن من منفاه بالمغرب.

 

محمد بوضياف.. خمسة أشهر من الحكم فقط

قرّر الجنرال خالد نزار الذي حمل حقيبة وزارة الدفاع منذ 27 جويلية 1990 أن يقود المجلس الأعلى للدولة، فأقنع بسهولة محمد بوضياف ليجلس على أريكة المرادية، وضم إلى جانبه في هذا المجلس الجماعي، المجاهد علي كافي وهو ديبلوماسي سابق والأمين العام للمنظمة الوطنية للمجاهدين، والدكتور تيجاني هدام الذي حمل حقيبتي الأوقاف والصحة، وعمل سفيرا في تونس والرياض وعميدا لمسجد باريس، والمحامي محمد علي هارون وكان وزيرا لحقوق الإنسان منذ جوان 1991.

 دخل السيد محمد بوضياف من الباب الواسع، حيث استقبل مثل الأجانب بالتمر واللبن، وكان واضحا منذ البداية بأن تعيين محمد بوضياف رافقته الارتجالية، فالرجل لم يكن مدركا لحقيقة الوضع العام في الجزائر، وحتى الذين استقدموه لم يكونوا يعرفون الرجل جيدا، ووجد بوضياف الذي طلّق السياسة منذ تصادمه مع أحمد بن بلة، صعوبة في التأقلم مع الأوامر الفوقية والطلبات القاعدية، ورحل محمد بوضياف من دون أن يبدأ رئاسته للجزائر.

ففي الثاني والعشرين من شهر جانفي، تم إلقاء القبض على عبد القادر حشاني الرئيس المؤقت للجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة، بعد سجن عباسي مدني وعلي بلحاج، كما تم توقيف سبعة من القياديين للحزب المحظور، وفي التاسع من فيفري، تم إعلان حالة الحصار لمدة 12 شهرا قابلة للتمديد، وحتى رجالات الحزب المحظور، عندما تم حل المجالس البلدية التي فاز بها الفيس في أواخر شهر مارس 1992 كانوا يدركون أن لا يد للرئيس المغتال فيها، حيث تم حل 397 بلدية كانت فيها الغالبية للفيس من بين 1541 بلدية على المستوى الوطني، وعندما بدأ محمد بوضياف يدرك حقيقة ما يحيط من حوله، وبدأ جولاته الداخلية تلقى رصاصات نقلته إلى العالم الآخر في التاسع والعشرين من جوان على المباشر، وهو يلقي خطابا بدار الثقافة بعنابة، وأصيب في الحادث 41 شخصا من دون سقوط قتلى باستثناء الرئيس محمد بوضياف، وهو الاغتيال الذي اغتال الأمل الذي عاش عليه قرابة الخمسة أشهر، الملايين من الجزائريين، ورغم حكم الإعدام الذي نطقه القاضي في حق الملازم في القوات الخاصة لمبارك بومعرافي في الثاني عشرة من جويلية، إلا أن لغز استقدام بوضياف والاغتيال الذي تعرض له مازال مبهما، مع الإشارة إلى أن الإعدام في حق لمبارك بومعرافي، لم ينفذ لحد الآن بعد مرور قرابة 22 سنة من الحكم، وهو حاليا سجين في رواق الموت بسجن البليدة ، ويزوره والده فقط مرة في الأسبوع؟

دخلت البلاد منذ استقالة الشاذلي بن جديد، أو إقالته في حالة من الفوضى والغموض أيضا، حيث صارت من دون دستور واضح، وتم إنشاء ما يسمى المجلس الاستشاري الوطني كبديل للمجلس الشعبي الوطني، وشًلّت غالبية المجالس البلدية والولائية وفرغت الخزائن من الأموال، وصارت كل الاحتمالات واردة.

 

علي كافي .. الرئيس الذي لم يرأس

لم يجد الجنرال خالد نزار، من حل سوى الدفع بالراحل علي كافي وكان عمره 64 سنة لترؤس المجلس الأعلى للدولة كرئيس مؤقت للبلاد، وسارع بدوره لتعيين عبد السلام بلعيد رئيسا للحكومة معتمدا على خبرته وبعض الشعبية التي كان يحظى بها، رغم أن الصناديق كانت شاغرة من الأموال، بسبب انهيار أسعار النفط، وقبضة صندوق النقد الدولي والفاتورة الأمنية الباهظة الثمن، وفي أول سنة لعلي كافي في شهر جويلية تم الحكم على عباسي المدني وعلي بلحاج بالسجن النافذ لمدة 12 سنة.

صحيح أن سعر برميل النفط لم يكد يزيد عن 15 دولارا في عهد رئيس المجلس الأعلى للدولة علي كافي، ولكن هذا لا يبرر التوقف الكامل لدواليب الدولة التي تحولت إلى حكم عسكري بالكامل من دون أي نشاط مدني، ولم تكن الصحف الجزائرية وحتى العالمية تقدم غير أخبار التوقيفات والتفجيرات، إذ تم كتم صوت ثلاث صحف يومية في الثامن من أوت 1992 وهي لوماتن ولاناسيون باللغة الفرنسية، والجزائر اليوم باللغة العربية بحجة نشرها أخبارا أمنية خاطئة، وأعيدت “لوماتان” ولم تسمح السلطات للبقية بالعودة، ولكن الحدث الذي هزّ العالم هو تفجير مطار هواري بومدين الدولي في أواخر أوت، وأدى التفجير إلى مقتل تسعة أشخاص، وإصابة 128 من بينهم أجانب، وأصدرت المحكمة بعد فترة قصيرة من الحادث، حكم الإعدام في حق الجناة، وتم تنفيذ الإعدام بالرصاص، وهو آخر حكم إعدام نٌفذ بالفعل في الجزائر، في الوقت الذي لم ينفذ الإعدام في حق قاتل محمد بوضياف. ولأن الحاكم الحقيقي في هذه الفترة هو الجنرال خالد نزار فإنه تقرر في الخامس من ديسمبر من عام 1992 إقرار حضر التجوال على الجزائر العاصمة والولايات المحيطة بها، ومع بداية العام الموالي أقرّ خالد نزار أيضا تمديد حالة الطوارئ التي تواصلت إلى غاية العام الماضي لمدة قاربت العشرين عاما، واعترفت السلطات الجزائرية بتعرض الجنرال خالد نزار في 13 فيفري لمحاولة اغتيال عبر سيارة مفخخة، ووجهت أصابع الاتهام للفيس المحل، ولم يتردد الجناح المسلح للحزب المحظور فاعترف بالعملية وتبناها.

صور الموت، أو مسلسل الحزن الذي دخلت فيه الجزائر، أدخل العاصمة في تناقض عندما تظاهر مئة ألف شخص ضد الإرهاب وغطى التلفزيون الحدث، رغم حالة الطوارئ التي تعيشها البلاد وتمنع التظاهر، ومع أن الجزائر خرجت عن الحدث العالمي نهائيا إلا أنها قامت بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع إيران متهمة إياها بتدعيم الإرهابيين، وعاد أحمد بن بلة في الرابع من شهر أوت 1992 وهو ما جعل الإعلام الفرنسي، يتحدث عن إمكانية الاستعانة به لرئاسة الجزائر كما حدث مع بوضياف، بالرغم من أن بن بلة كان قد بلغ من السن 74 سنة، وحتى تكتمل صورة الحكم العسكري الذي عاشته الجزائر، تم التخلي عن بلعيد عبد السلام في ظروف غامضة، وقاد الوزارة الأولى رضا مالك منذ 30 أكتوبر 1993، فتعقد الوضع أكثر وظهرت الجيا بقوة من خلال بياناتها التهديدية تجاه الأجانب حتى يغادروا البلاد، ومن خلال اغتيال 60 عسكريا دفعة واحدة في ولاية بلعباس في هجوم على ثكنة تلاغمت، وكانت هذه العهدة في زمن علي كافي الأصعب على الجزائر، رغم أنها انتهت بمحاولة البحث عن السلم، من خلال عمليات إطلاق سراح 780 من المعتقلين في المحتشدات الصحراوية، وبدأ جناح في السلطة يطالب بغلق هذه المعتقلات التي أساءت للجزائر، ولم تعط سنة ونصف سنة من القيادة الفردية للمجلس الأعلى للدولة سوى مزيدا من المآسي على الشعب، فبدأ أعضاء المجلس يضغطون على خلفية الضغوطات الخارجية، على خالد نزار للبحث عن الشرعية، عبر رئيس منتخب ومؤسسات تشريعية منتخبة، وحتى الرؤساء المدنيين بعد تجربة محمد بوضياف من الذين اتصل بهم خالد نزار كانوا يرفضون، وعاد اسم عبد العزيز بوتفليقة ليطرح بقوة، ولكن في الأخير تقرر منح الرئاسة لرجل عسكري من غير المعروفين.

 

اليمين زروال .. هل استقال أم فرّ من الحكم؟

لم يكن من حل أمام النظام الذي قاده خالد نزار، منذ استقالة الشاذلي بن جديد سوى البحث عن رئيس وإلباسه بالشرعية، ولم يكن من حل للاطمئنان على أن لا يتكرر سيناريو الرئيس المدني، هو رئيس من قلب المؤسسة العسكرية، فجاء اختيار اليمين زروال في الفاتح من أكتوبر 1994 وكان عمره قد بلغ 57 سنة، وتم بسرعة حل المجلس الأعلى للدولة غير الشرعي، ولكن تواجد ابن باتنة تزلزل بهروب قرابة ألف سجين من سجن تازولت بسجن باتنة، وتم تعيين السيد مقداد سيفي، رئيسا للحكومة، لتظهر بقوة في خريف 1994 “الجيا” التي تلقت ضربات قوية بمقتل سايح عطية ومن بعده شريف قويسم، وبادر اليمين زروال الاتصال بقادة الجناح العسكري للحزب المحل، رغم محاولات “الجيا” لنقل ثورتها إلى الخارج، عندما قامت في نهاية عام 1994 باختطاف طائرة مدنية في مارسيليا، ثم استهلت عام 1995 بتهديد كل السفارات المتواجدة في الجزائر، وبعيدا عن النظام طار مجموعة من رجالات المعارضة، وحتى النظام ومنهم آيت أحمد وعبد الله جاب الله ويحيى عبد النور إلى روما، والتقوا في 13 جانفي عام 1995 في سانت إيجيديو في محاولة لتقريب وجهات النظر، ولكن النظام لم يستحسن هذه المبادرة، وشعر بوجود فراغ سياسي كبير، فدفع الجزائريين إلى انتخابات رئاسية متعددة هي الأولى في تاريخ الجزائر، لم يشارك فيها في منافسة الرئيس اليمين زروال في 16 نوفمبر 1995 أي بعد 13 شهرا سوى الراحل محفوظ نحناح وسعيد سعدي ونور الدين بوكروح، بينما قاطع الأفافاس الرئاسيات، وسجلت الانتخابات شكليا بعض النجاح، عندما أمّ صناديق الاقتراع أكثر من 73 بالمئة من المنتخبين، وتمّ حسمها في الدور الأول لصالح اليمين زروال بنسبة 61 بالمئة، تاركا المرتبة الثانية لمحفوظ نحناح بـ25 بالمئة، وسجل سعدي 9 بالمئة وحصل بوكروح على نسبة 3.78 بالمئة، وبعد شهر ونصف شهر تمت الاستعانة لأول مرة بالسيد أحمد أويحيى لقيادة حكومة جديدة، ولم يكن رئيس الأرندي بعد ذلك، قد زاد سنه عن 43 عاما، فحاول إعطاء الصورة المدنية للحكم، فنُزع عن العاصمة حظر التجوال الليلي الذي سجن الحركة فيها ومنها وإليها، ولكن العاصمة لم تنج من النار، عندما قُتل رئيس بلدية العاصمة وسط في تبادل إطلاق نار بين إسلاميين والشرطة، وكانت سنة 1997 أسود السنوات في تاريخ الجزائر على الإطلاق، وأحداثها الدامية هي التي عجلت في رحيل الرئيس اليمين زروال حيث تم إحصاء أكثر من 300 قتيل، في شهر رمضان فقط، بمعدل عشرة قتلى في اليوم، وبينما حاولت السلطة تهدئة الوضع بإطلاق سراح الرجل الثالث في الفيس المُحل عبد القادر حشاني لم ينعم بحريته حتى تم اغتياله، ثم تعقدت الأوضاع باغتيال المطرب القبائلي معطوب الوناس، وبعثرت الدماء في كل مكان ففضل اليمين زروال الخروج من الحكم والعودة إلى أمان التقاعد الذي ينعم به حاليا في مدينة باتنة، واقتنع خالد نزار بأن إعادة كرسي المرادية لرئيس مدني هو الحل الوحيد، واقتنع وهو الذي كان يمانع بالاستنجاد بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة.

 

عبد العزيز بوتفليقة..أقصر رئيس وأطول عهدة في تاريخ الجزائر 

أخيرا وبعد عشرين سنة من منعه من كرسي الرئاسة، عاد النظام للاستنجاد بالرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي ورث بلدا منهكا في كل المجالات وكان عمره قد بلغ 62 سنة، وحاول النظام صنع أجواء انتخابات رئاسية ديمقراطية، في  15 أفريل 1999 عندما جمع من حول الرئيس مترشحين من الوزن الثقيل رفضوا أن يكونوا أرانب لمرشح النظام، وهم أحمد طالب الإبراهيمي وعبد الله جاب الله وآيت أحمد ومولود حمروش ومقداد سيفي والدكتور يوسف الخطيب، ولكن عريس النظام بقي لوحده في المنعرج الأخير بعدد انسحاب السداسي من السباق، فبلغت نسبة المشاركة 60.25 بالمئة، وحصل بوتفليقة على نسبة 73.79 بالمئة، وأبت السلطة إلا أن تكشف أرقام بقية المترشحين المنسحبين فحصل الإبراهيمي على 12.5 بالمئة، والبقية تراوحت نسبهم بين 3.7 إلى 1.22 بالمئة، وأول ما حققه بوتفليقة في عهدته هو جني ثمرة وئام زرعه اليمين زروال، عندما وضع الجيش الإسلامي للإنقاذ سلاحه، ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى جرّ الوئام المدني الجزائريين للانتخابات في سبتمبر 1999 حيث منح الجزائريون نسبة 98.67 بالمئة، ومع ارتفاع أسعار النفط قام الرئيس بوتفليقة على مدار عهداته الثلاث بتسليم حقيبة الوزير الأول لخمسة وجوه قد تكون جميعها منافسة في رئاسيات 2014، بداية من أحمد بن بيتور في 23 ديسمبر 1999، ليمنح لعلي بن فليس في 16 أوت 2000 ذات الحقيبة، وقرّر في الخامس من ماي 2003 إعادة أحمد أويحيى للأضواء ثم تبادل هذا الأخير مع عبد العزيز بلخادم منصب الوزير الأول قبل أن ينهي حكاية التغييرات مع عبد المالك سلال، وقبل أن تصرف الدولة على مدار العهدات الثلاث للرئيس بوتفليقة التي تعتبر الأطول في تاريخ الجزائر بـ15 سنة من الحكم، قرابة 800 مليار دولار في محاولات الإنعاش الاقتصادي، كانت العهدة الأولى للرئيس بوتفليقة قد تميزت بثلاث كوارث، أولاها أحداث العروش في ربيع 2001 والثانية في نوفمبر 2001 في طوفان باب الوادي الذي ابتلع 751 عاصمي، والثالثة قي شهر ماي 2003 في زلزال بومرداس والعاصمة الذي لم تقل خسائره المادية عن ست ملايير دولار ناهيك عن الخسائر البشرية الجسيمة.

عبد العزيز بوتفليقة لم يكن عابر أريكة المرادية كما تصور النظام، على شاكلة الثلاثي الذي مرّ على الأريكة ومكث فيها سبع سنوات فقط، من بوضياف إلى كافي إلى زروال، منذ سحب البساط من تحت أقدام الشاذلي بن جديد، حيث اختار بدقة في انتخابات 2004 أرانب على المقاس كان من بينهم علي بن فليس، ثم عدّل الدستور، ودخل معه أرانب جدد في انتخابات 2009 وفي كل المناسبات كانت أرقامه كاسحة، والأدهى من ذلك أن أكبر ثلاثة أحزاب شكلا في الجزائر اتحدت في ائتلاف رئاسي، لتبايع كل برامج الرئيسي حتى من دون أن تطلع عليها.

وتختلف المكنات التي تشتغل في مصنع الرؤساء هذه المرة، عن المكنات السابقة، لأن 15 من أحادية الحكم المطلقة خلطت الأمور، وإذا كان في السابق الترشيح ممكنا، فإن الصورة هذه المرة تبدو مضببة لأن صناعة الرئيس هذه المرة في حاجة إلى رأي المخبر … ورأي العيادة أيضا. 

مقالات ذات صلة