درس من الشعب التركي
يمكن القول إن الشعب التركي كان الرابح الأكبر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، بعد أن اتخذها محطة أخرى لتكريس تجربته الديمقراطية المتميزة في العالم الإسلامي.
منذ عام 2002 وأغلبية الشعب التركي تمنح أصواتها لحزب “العدالة والحرية”، وقد نال أغلبية مطلقة في الانتخابات التشريعية الثلاثة الماضية، ولكن الشعب رأى اليوم أن قائد “العدالة والتنمية” أردوغان قد بدأ ينزع نحو الحكم الأحادي، فرفض منحه الأغلبية التي تمكّنه من تعديل الدستور، بل حتى الأغلبية المطلقة التي تمكّنه من تشكيل حكومة دون حاجةٍ إلى ائتلاف.
لقد قدّم أردوغان منذ عام 2002 خدماتٍ جليلة لبلده، وحققت حكومته طفرة اقتصادية كبيرة لتركيا جعلتها تحقّق نسبة نموّ قياسية بلغت 8 بالمائة، واحتلت بموجبها المرتبة الـ17 في قائمة أكبر الاقتصادات العالمية بعد أن كانت غارقة في التخلف، ومع ذلك رفض الشعب طلب أردوغان منحه الأغلبية البرلمانية الساحقة لكي يعدّل الدستور ويجعل نظام البلد رئاسياً؛ فقد رأى في ذلك نزعة سلطوية فردية تهدّد الديمقراطية الفتيّة في البلد، فآثر الإبقاءَ على النظام البرلماني الحالي الذي يتيح له مشاركة أفضل في الحياة السياسية عن طريق ممثليه في البرلمان، والذين يمكُنهم مراقبة أداء الحكومات، والضغط لتغيير سياساتها، وإسقاطها إذا تطلّب الأمر، وهو الأمر غير الفعّال في النظام الرئاسي.
معنى هذا أن الشعب التركي قد بلغ درجة عالية من الوعي والنضج السياسي لم يعد معها يقبل العودة إلى أيّ شكل من أشكال الشمولية، ولو كانت مغلّفة بغطاء نظام رئاسي تحاول تسويقَه شخصيةٌ سياسية محبوبة وحققت له الكثير من الإنجازات طيلة 12 سنة من رئاسته للحكومة؛ فالإنجازات المحققة يجب أن لا تكون ذريعة لتعديل الدساتير بغرض تكريس هيمنة الأشخاص على مقاليد الحكم على حساب المؤسسات، وفي ذلك درسٌ بليغ من الأتراك للشعوب العربية والإسلامية بضرورة عدم موافقة زعمائهم إذا أرادوا تغيير الدساتير وفتح العهدات الرئاسية بنيّة احتكار الحكم مدى الحياة، بذريعة أنهم أنجزوا الكثير لشعوبهم، وكأن هذه الإنجازات، مِنّة من هؤلاء الرؤساء وليست واجباً يؤدونه.
وكما كرّست هذه الانتخابات الإرادة الشعبية بعيدا عن نزوات الحاكم وتعطّشه للانفراد بمقاليد الأمور، فقد كرست أيضاً خروج العسكر من الحياة السياسية، فهذه هي الانتخابات التشريعية الرابعة منذ عام 2002 التي تتمّ دون انقلاب، ما يعني أن جيش تركيا الذي كان “مُدمناً” على الانقلابات ومصادرة الإرادة الشعبية في العقود الماضية، قد اختار، بشكل نهائي فيما يبدو، تسليم زمام الأمور للشعب قصد تحقيق الاستقرار لبلده وإخراجه من التخلف كما حدث في بلدان عديدة في العالم الثالث تخلى فيها العسكر عن السلطة وسمحوا بالديمقراطية الحقيقية في بلدانهم، ومنها الأرجنتين والبرازيل.. ما مكّن تركيا من الخروج بدورها من التخلف. وحريّ بعسكر الدول العربية والإسلامية أن يستخلصوا العبرة الكاملة من عسكر تركيا، ويتخلّوا بدورهم عن احتكار الحكم وفرض ديمقراطية الواجهة على شعوبهم، لأن ذلك لا يعني سوى غرق بلدانهم في التخلف والفقر والفساد ونهب الثروات وتفويت الفرصة تلو الأخرى عليها في تحقيق أيّ إقلاع تنموي.