الرأي

دستوريون؟ أم في حاجة إلى دستور؟

محمد سليم قلالة
  • 2125
  • 0

المشكلة ليست في أن يكون لنا دستور أم لا يكون، إنما: هل نحن “دستوريون”؟ وكيف ينبغي أن نكون؟ مسألة الدستور في آخر المطاف لها علاقة بالقيم السياسية والأخلاقية السائدة في المجتمع والدولة أكثر مما لها علاقة بالفقه الدستوري. لقد عرفنا أكثر من دستور في السابق، هل صَنَع ذلك منا دستوريين؟ أم معتدين باستمرار على الدستور؟

لطالما تأكد لي أن مشكلة الجزائر ليست دستورية ولا قانونية ولا حتى اقتصادية أو اجتماعية بقدر ما هي أخلاقية لها علاقة بالقيم. الدستور ليس مجموعة من المواد المصاغة بطريقة مضبوطة ذات معنى محدد، إنما هو تلك الخلفية الثقافية والسياسية والقيمية التي تَحكمه وتُعطي له معنى ودلالة.

لو نقلنا نفس المادة من الدستور الأمريكي إلى الدستور الجزائري لما أعطت نفس النتيجة ولا أدَّت نفس الدور. التداول على السلطة، إذا ما كان سيُكرَّس في دستور معين، ينبغي ألا يَنبع من الذين لم يؤمنوا به أو استثنوا أنفسهم منه، ذلك أنه من غير المقبول أخلاقيا أن أحابي نفسي بمادة قانونية ثم أمنع منها الآخرين بل كل الأجيال القادمة. وحتى إن كنتُ أنا استثناءً، فمَن يمنع أن يأتي أفضل مني بعد جيل أو جيلين؟ أم إنني مَلكتُ اليقين ألا يوجد بعدي من هو أفضل مني؟ تفسير ذلك يحتاج إلى الغوص في القيم التي تحكم الأفراد وليس في الفقه الدستوري.

هذه واحدة فقط من المسائل التي تبرز أن المشكلة الحقيقية ببلادنا لها علاقة بالقيم التي يحملها السياسيون والناس جميعا وليست بما يتم تضمينه من مواد في الدستور.

مسألة اللغة هي الأخرى مثال حي عن ذلك؛ إذ عندما تُكرَّس اللغة العربية لغة وطنية ورسمية في الدستور وأقوم ـ كممثل للسلطة السياسيةـ بالاعتداء عليها في الواقع عند ممارستي الحكم، سواء في اجتماعاتي الرسمية أم في معاملاتي الخارجية، بل أحيانا حتى في لقاءاتي الداخلية مع أبسط المواطنين، يعني أنني أفتقد القيم الأخلاقية التي تجعل مني قبل أن أكرس هذه اللغة في مادة دستورية أكون مقتنعا بها بداخلي أنها كذلك وأستعملها فعلا، ليس فقط عندما يكون ذلك من واجباتي الرسمية إنما عندما أكون مع نفسي ومع أقرب خاصتي وفي علاقاتي الحميمية. هل يمكن تصور أمريكي يتكلم بغير لغته في لقاءاته الرسمية والحميمية؟

ألم تكرس اللغة العربية لغة رسمية منذ أول دستور في الجزائر، في الوقت الذي لم تكن في يوم من الأيام هي اللغة الرسمية فعلا أثناء اجتماعات مجلس الوزراء؟ ألم تكن فقط أقلية من الوزراء هي التي تُقدِّم تقاريرها باللغة العربية وأحيانا لا يقوم بذلك سوى وزير الشؤون الدينية؟

ولعل ذات الشيء سيكون بالنسبة إلى اللغة الأمازيغية، حيث لا نتصور أن حكوماتنا القادمة ستلتزم، بعد جعلها لغة رسمية، بتقديم تقاريرها بالأمازيغية في مجلس الوزراء أو بالسعي إلى ذلك في الاتصال بين أعضاء الحكومة، فضلا عن الاتصال بنظرائهم في الخارج من خلال مترجم معتمد…

فهل سيكون لترسيمها جدوى إذا لم يكن نابعا من إيمان حقيقي بذلك وبإرادة فعلية لاستعادة مكونات الشخصية الوطنية؟

وقس على ذلك باقي المواد المصاغة بأجمل طريقة.

إن المسألة لا تتعلق بإيجاد مواد دستورية جديدة أو بتقديم دستور يبدو في أجمل حُلة من حيث الشكل، إنما في الإرادة السياسية التي هي خلف هذا الدستور، وفي طبيعة القيم الأخلاقية التي تحكم الذين قاموا بصناعته، وفي مدى تطابق حقيقة القناعات التي يحملونها مع طبيعة المواد التي يتم الإعلان عنها.

كم من دستور مر بنا، وكم من دستور سيمر بنا، من غير أن نُصبح دستوريين حقيقيين؟

إذا تضمن الدستور تكريس العدالة والمساواة بين المواطنين كانت تلك حقيقة في الميدان. وإذا تضمّن أن السلطة للشعب يمارسه من خلال منتخبيه، كان ذلك حقيقة في مجالسه البلدية والولائية والوطنية إذ تعلو قراراتها قرارات السلطة التنفيذية أو أي سلطة أخرى كالمال والنفوذ. هل حدث هذا؟

إن المسألة لا تتعلق بإيجاد مواد دستورية جديدة أو بتقديم دستور يبدو في أجمل حُلة من حيث الشكل، إنما في الإرادة السياسية التي هي خلف هذا الدستور، وفي طبيعة القيم الأخلاقية التي تحكم الذين قاموا بصناعته، وفي مدى تطابق حقيقة القناعات التي يحملونها مع طبيعة المواد التي يتم الإعلان عنها.

ليحدث، نحن في حاجة إلى تصحيح الواقع الأخلاقي والقيمي السائد بيننا قبل تصحيح الواقع القانوني. إننا لسنا في حاجة إلى سياسيين يُدلون بتصريحات الكل يعلم أنها مجرد قناع يلبسونه لتحقيق مآرب أخرى، بقدر ما نحن في حاجة إلى تصحيح هذا الواقع من خلال تغيير نوعية الرجال والنساء الذين يُمكن أن يكونوا دستوريين بحق، ويكون لديهم التطابق الفعلي بين القول والمماسة، بين ما يُضمِرون وما يعلنون وما يُطبِّقون.

وهذا لن يتم إلا من خلال فرز حقيقي يقوم به المواطنون عبر الاختيار الحر والنزيه لمن يُمثِّلهم؛ أي من خلال العودة إلى نقطة البداية التي تسبق كل عمل سياسي أو كل تشريع قانوني، أي إلى الشرعية، من المنشإ في المجالس المنتخبة في البلديات إلى أعلى هرم في السلطة: البرلمان ورئاسة الجمهورية.

ولعل هذا ما يجعلنا نقول إن مستقبل بلدنا ليس مرهونا بالدستور، إنما بالقدر الذي نكون عليه دستوريين وشرعيين وأخلاقيين أو لا نكون.

إن الحديث عن كل تلك المواد الجميلة المتعلقة بحرية الصحافة والإعلام، وبالمكانة اللائقة للمعارضة، وبالفصل بين السلطات، وعدم اللجوء إلى التشريع بالمراسيم، وبتأسيس لجنة وطنية لمراقبة الانتخابات وغيرها مما تم اقتراحه من أفكار جميلة تقدم بها مخلصون ومخلصات لهذا الوطن بطرق مباشرة أو غير مباشرة عبر وسائل الإعلام ومن خلال اجتهادات فردية صادقة، ينبغي أن ينبع مِن ممثلين حقيقين للشعب غير مطعون أو حتى مشكوك في شرعيتهم، حتى يكون متطابقا مع نوعية الناس الذين يحملونه، مما سيرفع من شأن العمل السياسي ليُصبح أخلاقيا يعرف التطابق غير المزيف بين النص المعلن والفعل الممارس في الميدان.

إن نجاح الدستور في آخر المطاف، لا يكون بنوعية بنوده، وبإِحكام صياغتها، إنما بنوعية الذين يقدّمونه والذين يشاركون في تطبيقه والذين سيُطبق عليهم، وتلك مسألة ليست من اختصاص القانون الدستوري إنما من اختصاص نظرية القيم السياسية التي تقول لنا هل امتلكت أمة من الأمم منظومة قيم وقيمة عُليا تنظر من خلالها إلى نفسها وإلى الآخرين وتصنع من خلالها قوانينها أو واقعها أم لم تمتلك؟ يبدو أننا في هذه المرحلة بالذات: الأمريكيون أصبحت الحرية بحق هي قيمتهم العليا فأقاموا الديمقراطية بكل القوانين التي تحميها، فهل هو كذلك العدل عندنا قيمة عليا قبل أن يُجسَّد في الدستور؟ وهل هي الحرية؟ وهل هي التداول على الحكم؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي التي تُمكِّننا من معرفة هل نحن نسير باتجاه أن نكون دستوريين؟ أم نريد أن يكون لنا دستورٌ حتى لو لم نكن كذلك؟

مقالات ذات صلة